الدبلوماسية التونسية واللسان المتلعثم

28 يونيو 2015

الطيب البكوش... تمسك بوزارة الخارجية عند الخيار الصعب (أ.ف.ب)

+ الخط -
غادر وزير الخارجية التونسي، الطيب البكوش، التدريس في الجامعة مبكراً، ليلتحق بمهام نقابية ومدنية، فلا يعرفه من الجيل الحالي من الجامعيين، إلا من زامله أو تتلمذ عليه مبكراً. كان منذ بداياته الأولى في الساحة الجامعية ساقا في الجامعة وأخرى خارجها: النقابة أو منظمات المجتمع المدني. مر في ثمانينيات القرن الفارط أساساً بالاتحاد العام التونسي للشغل، ثم انتقل إلى المعهد العربي لحقوق الإنسان. وما زال بعضهم يتساءل عن سر هذه "المكافأة" من دون أن يعرف عن الرجل تنظيراً أو نضالاً إبان محن حقوق الإنسان التي عرفتها البلاد أكثر من عشريتين. وحتى مروره عضواً في المركزية النقابية ترك أسئلة كثيرة، خصوصا مع محنة رفيقه الزعيم النقابي، الحبيب عاشور، الذي أودع السجن آنذاك، حتى أدركته الثورة، وهو أمين عام للمعهد العربي لحقوق الإنسان الذي لم يتخذ على الإطلاق أي موقف تجاه الانتهاكات الفظيعة التي كانت على مرمى حجر منه. ثم حدثت الثورة، ووجد الرجل نفسه في سياقات مخصوصة، وزيرا للتربية في حكومة الباجي قائد السبسي الذي استغل الحكومة محضنة لتشكيل زعامات حزب نداء تونس لاحقا. فجل وزراء حكومة الحبيب الصيد الحاكمة حالياً كانوا، بشكل أو بآخر، أعضاء في حكومة الباجي قائد السبسي أو مستشارين فيها، قبل أن تجري انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. 
ليس المراد أن نكتب سيرة للطيب البكوش، فذلك آخر ما يعنينا. يحسب الرجل على اليسار الثقافي وهناك من يعتقد أنه، وهو المختص في اللسانيات والمدرس للعربية، فرنكفوني الهوى، وقد يكون تسلمه وزارة التربية محاولة لإحياء تراث المرحوم محمد الشرفي في هذا المجال. مر الرجل بالوزارة من دون أن يثير اهتماماً، وكان أقرب إلى التكنوقراط. ولكن، برز نجمه معارضاً شرساً بعد أن تسلمت الترويكا الحكم، وتشكل حزب نداء تونس الحاكم حاليا. تحفظ للرجل تصريحات أيديولوجية من نار، لا تستقيم مع حد أدنى من الرصانة الأكاديمية المفترضة. تشكلت حكومة النداء بعد انتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014، ومسك الرجل وزارة الخارجية بمعية التوهامي العبدولي، كاتب دولة وزارة الخارجية (أستاذ الآداب والحضارة العربية في الجامعة التونسية هو أيضا)، وهو الذي يفوقه في التصريحات المتشنجة والمراهقة أشواطاً. تولى الرجلان الإشراف على وزارةٍ، هي من أخطر الوزارات، نظراً للسياق وخصوصيته: تونس بلد صغير ينجز ثورة في سياق إقليمي مجاف لها مع اقتصاد عليل وإرهاب مستفحل.

لا تعود أزمة الدبلوماسية التونسية إلى أشخاص بعينهم. هذا محسوم، وسيضيف بعضهم أن الأزمة متواصلة منذ الثورة، وربما ما قبلها، وهذا متفق عليه تقريبا أيضاً. ولكن، علينا أن نستحضر أن في المسائل الدبلوماسية، ووزارة الخارجية بالذات، يكون لطبيعة الأشخاص وقع كبير، فالطبع والكفاءة والقدرات والخصال والمزاج تلعب أدوارا خاصة، بل مصيرية في نجاح السياسات الخارجية أو فشلها.
يقال إن وزير الخارجية خيّر في حزبه، لأسباب داخلية تنظيمية تمنع الجمع بين مهمة حكومية وأخرى سياسية متقدمة في الهياكل الحزبية، بين الإشراف على وزارة الخارجية ومسك الأمانة العامة لحزب نداء تونس، فخير عن طواعية الأولى. هل كان الرجل على قناعة أن حظوظه في النجاح في قيادة النداء في هذا السياق بالذات، ومنافسة الرجل البلدوزر في الحزب، محسن مرزوق، ضعيفة، وهو الذي عجز عن تعبئة جناح أو كتلة تدعمه؟ أم أنه كان على قناعة أن نجاحا متوقعاً في وزارة الخارجية قد يرفعه إلى أعلى عليين في مراكز ومناصب؟ لا ندري حقيقة العوامل التي رجحت تمسكه بوزارة الخارجية، حين وضع أمام الاختيار الصعب.
لم يحدث مطلقاً أن وقعت السياسة الخارجية لتونس في مطبات، كالتي وقعت فيها منذ تولي البكوش هذه المهمة، فالبلاد، لأول مرة، في شبه قطيعة ديبلوماسية مع جاريها، ليبيا والجزائر. بعد أن سحبت تونس تمثيليتها الديبلوماسية من طرابلس، سحبت الجزائر سفيرها للتشاور على خلفية الاتفاقية التي أمضاها مستشار الرئيس محسن مرزوق مع الولايات المتحدة الأميركية. "صدمت" الجزائر في غياب تشاور مفترض بين البلدين، وذلك حد أدنى، وهي التي ظلت تكرر، لأسباب جيوسياسية، أن "أمن تونس من أمنها".
لعبت الجزائر، في الأشهر الأخيرة، بكل عنفوان أدوارا ديبلوماسية غير مألوفة، فكان لها دور كبير في الأزمة المالية والليبية، فتمددت، على خلاف ديبلوماسيتنا التي انكفأت على ذاتها، وظلت كثيرة التهيب لحسابات إيديولوجية حزبية، حتى فوّتت، في النهاية، الفرصة على نفسها، وظلت تلاحق الأحداث.
يبدو أن شيئاً ما يعوق التحرك حاليا في الاتجاه الصحيح، من أجل تعديل البوصلة. التعويل على الدبلوماسية الموازية التي يقودها أمين عام حزب نداء تونس، محسن مرزوق، بقطع النظر إن كان ذلك استيلاء على مهام وزير الخارجة الحالي، أمر غير مجد، فالمسالة تحتاج إلى اتخاذ إجراءات عاجلة، انتصارا لمصلحة البلاد، فلا يحق للساني أن يتلعثم مرة أخرى.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.