واحدةٌ من المشاكل التي واجهت بعضَ كتّاب القصّة القصيرة الشباب في جيلنا، هي أنهم لم يستطيعوا أن يُفرّقوا بين المطالب المعيشية وفن الكتابة القصصية. وقد أُغرقت المحاولات الإبداعية بسيلٍ من القصص التي تتحدّث عن أزمة الخبز، أو أزمة المواصلات، أو أزمة السكن.
كان الناس، بالفعل، يقفون ساعات طويلة في طوابير أمام الأفران للحصول على ربطة خبز، وكان الناس يتراكضون خلف باصات النقل، إمّا في طريق الذهاب إلى أعمالهم، أو في طريق الإياب إلى بيوتهم. وكان الناس يعانون من موضوع البحث عن بيت للإيجار أو السكن، ولكن في كل الأحوال لم يكن الرغيف مفقوداً، ولم يكن باص النقل غير متوفّر، كما لم ينم الناس في العراء عامّةً.
والغريب في الأمر أن مثل تلك الأزمات كانت تنتهي، أو كان بالوسع أن تنتهي حين يُصدر السياسيُّ قراراً بتوفير الطحين مثلاً، أو يأمر باستيراد باصات للنقل الداخلي تكفي لحل أزمة المواصلات، أو يعطي إشارة البدء ببناء الشقق السكنية، وغير ذلك؛ فالأزمة كانت أوّلاً أزمة في السياسات، في شكل السلطة، أو في موقفها من الحاجات الأساسية للإنسان.
غير أن مثل تلك الأزمات لا يمكن أن تُعالَج فنّياً في قصّة تنتهي صلاحيتها حين يُصدر الحاكمُ قراراً إدارياً بحلّ هذه المشكلة أو تلك. وبسبب طغيان المطلبي على الوجودي غابت عن كثير من القصص السورية، في السبعينيات وما بعد، القضايا الجوهرية في حياة الإنسان: الحرية والعدالة والضمير والصداقة.
ففي غمرة المشاهد البصرية التي تحتمي بالنضال المطلبي، تضيع الروح الإنسانية حين يكون محتوى القصة مقتصراً على بيان تقصير السلطة في توفير الرغيف، فالقضية المطلبية تكشف عن وجه مسطَّح للشخصية القصصية، إذ بمجرّد حصول "البطل" على ربطة الخبز تنتهي معاناته، بينما تبدو قضية الرغيف أكثر رحابة، إذ أنها تضع البشر في مواجهةٍ مع البقاء، سواءً كان الخصم هو الطبيعة، أم كان شكلاً من أشكال الاستغلال الطبقي.
والسبب، في رأيي، أن الكاتب لم ير في وقوف المواطنين الطويل ضمن طابور الخبز غير أهدافه هو، لا الوضع البشري الذي يهين الكرامة الإنسانية.
وللشخصية، هنا، وجود ميكانيكي محض يؤدّي دوراً في التبليغ عن الموضوع، أو إرسال رسالة للمسؤول، أو التحريض من أجل كسب قضية مطلبية محدّدة، وهي مسائل تجعل من القصّة مجرد وعاء خارجي يُستَخدم كذريعة.
أذكر أن إحصائيات القصّة بيّنت ظهور المئات من المجموعات القصصية في سورية حتى تاريخ منتصف التسعينيات من القرن العشرين. وقد انمحت معظم تلك القصص من التاريخ الأدبي، ومن الذاكرة الثقافية، بسبب زوال أسباب وجودها؛ فالقصّة لدى مثل أولئك الكتّاب تعادل كيس طحين أو إسمنت أو سيارة نقل عامة.
وبهذا المعنى، يُضحّي هؤلاء بالقصة من أجل الزعم بأنهم يحكون عن هموم "المواطن". بل إن وضع الإنسان كمواطن فقط، هو هم سياسي، ربما تكون كل أنظمة الحكم مناصرةً له، إذ تجعل وجوده مقتصراً على المطالب اليومية المباشرة، وترفض أن تنظر إليه كإنسان.