الحياة على الحافة

17 يونيو 2020
وول ستريت تواجه عقبات جديدة تهدد آمال الانتعاش (Getty)
+ الخط -


بعد أكثر من مائة عام من خدمة السوق الأميركية، أعلنت شركة "هيرتز" لتأجير السيارات إفلاسها، وطلبت من المحكمة الحماية من الدائنين، بعدما تسببت أوامر "الإغلاق الكبير"، التي تم فرضها لأكثر من شهرين للحد من انتشار وباء كوفيد 19، في توقف إيرادات الشركة، التي بلغت العام الماضي ما يقرب من 10 مليارات دولار. 

وسرحت الشركة 16 ألف موظف، يمثلون ربع العمالة لديها، وعرضت نسبة كبيرة من أسطول السيارات الذي تمتلكه، المكون من 700 ألف سيارة، للبيع، وبدا واضحاً أنها لن تتمكن من سداد مديونيتها التي اقتربت من 19 مليار دولار.

ورغم الحالة المتأزمة للشركة، كان سهمها هو الأنشط في البورصات الأميركية خلال أيام التداول الثمانية الأخيرة، بمتوسط حجم تعاملات يقترب من 300 مليون سهم في اليوم، ونسب ارتفاع ضخمة، تجاوزت 400% في يومين فقط، وهو ما أثار دهشة العديد من الاقتصاديين الذين اعتبر بعضهم أن مشتري السهم في الوقت الحالي "انتحاريون ولا يعون حقيقة ما يفعلونه".

ويوم الخميس الماضي، تقدمت الشركة بطلب لإحدى المحاكم الأميركية للسماح لها بإصدار أسهم تصل قيمتها إلى مليار دولار، لاستخدامها في عملية إعادة هيكلة ضخمة، مستفيدة من الإقبال منقطع النظير على سهم الشركة، رغم إخطارها رسمياً باحتمال شطبها من بورصة نيويورك.

وفاجأت المحكمةُ الأسواقَ بالموافقة على طلب هيرتز، رغم تأكيدها على عدم وجود حماية لمشتري أسهم الشركة، ورغم اعتراف محامي الشركة باحتمال ألا تكون للأسهم المباعة قيمة. وبدت الشركة عازمة على المضي قدماً في الخطوة التي ربما تمنحها بريقاً من الأمل في التعافي والاستمرار على قيد الحياة.
وفي حين كانت خطوة إصدار شركة هيرتز، التي أعلنت إفلاسها قبل أقل من شهر، أسهماً جديدة، غير مسبوقة، لم تكن فكرة "الحياة على الحافة"، التي تسعى إليها الشركة حالياً، جديدة على الشركات والأفراد والإدارات الأميركية، الذين اعتادوا على العيش في ظروف بالغة الصعوبة في كثير من الأوقات، ولم يمنعهم ذلك من مواجهة التحديات الوجودية، قبل أن يبتعدوا شيئاً فشيئاً عن الحافة، ويعودوا إلى الحياة التي نسميها نحن طبيعية.

أمثلة العيش على الحافة كثيرة، وكان أشهرها في السنوات الأخيرة ما مر به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث أمضى شهوراً طويلة من العام الماضي وهو يواجه تحقيقات عزله، التي نجحت في مجلس النواب، بينما لم يحالفها الحظ في مجلس الشيوخ.

بعد ذلك جاءت جائحة كوفيد 19، التي تسببت في كارثة حقيقية، حيث لقى أكثر من 115 ألف مواطن حتفهم، بينما تعرض أكثر من 2.1 مليون شخص للإصابة، وفقد ما يقرب من 40 مليون مواطن وظائفهم، وتراجع الناتج المحلي بنسبة تقترب من 5%، واقتربت العديد من الشركات من الإفلاس.

ولم يكد الرئيس الأميركي يتنفس الصعداء مع بدء الفتح التدريجي للاقتصاد، حتى داهمته جائحة مقتل جورج فلويد، المواطن الأميركي من أصل أفريقي، على يد شرطي أبيض، التي تسببت في خروج آلاف الأشخاص في ما يقرب من خمسين مدينة أميركية، في احتجاجات سببت الرعب للرجل الذي يقود القوة الأعظم في العالم، وأجبرته على الاختباء في قبو البيت الأبيض لبعض الوقت.

ورغم أن الاحتجاجات لم تتوقف حتى هذه اللحظة، إلا أن الرئيس الأميركي يمارس مهامه كاملة، ويتخذ القرارات الصعبة، بداية من سحب قواته من ألمانيا وتحدي الصين وتهديد السعودية وفرض العقوبات على إيران، ومروراً بتوقيع حزم تحفيز الاقتصاد وتعويض المواطنين والشركات وتعليق الهجرة، ووصولاً إلى تغريداته على الإنترنت، التي يسخر فيها من منافسه في الانتخابات القادمة، وينتقد عمدة نيويورك، ويهاجم الإعلام.

ولا يتوقف الأمر على الرئيس الأميركي، وإنما يمتد ليشمل ملايين المواطنين الأميركيين ممن يعيشون على الحافة، ويخوضون معارك يومية مع الحياة، أملاً في الاقتراب من تحقيق الحلم الأميركي.

وتشير أحدث الإحصاءات المعلنة في الولايات المتحدة إلى أن ما يقرب من 45 مليون مواطن ومقيم لا يوجد لديهم أي تأمين صحي على الإطلاق، رغم ارتفاع كلفة العلاج بصورة ملحوظة، وهو ما يعني تعرضهم لأزمات مالية مؤكدة في حالة اضطرارهم لدخول أي مستشفى لمدة ثلاثة أيام أو أكثر.
وعلى نحو متصل، يتجاوز عدد الموجودين على أراضي الولايات المتحدة، بدون مستندات تمنحهم حق الإقامة الشرعية وبدون وجود نية للخروج، 11 مليون مواطن، الأمر الذي يجعلهم جميعاً، وخاصة في ظل الإدارة الحالية المعادية للمهاجرين، معرضين لاحتمال إجبارهم على مغادرة البلاد في أي لحظة.

ولا يحتكر المهاجرون الإحساس بعدم الأمان، حيث يضطر أكثر من ثلثي الطلبة الأميركيين إلى الحصول على قروض لإكمال تعليمهم الجامعي. ويبلغ متوسط مديونية الطالب الأميركي عند تخرجه من الجامعة نحو 30 ألف دولار، يبدأ حياته وهي حبل ملفوف حول رقبته، مطلوب منه سدادها، كما تكوين نفسه وتأجير أو شراء بيت ليعيش فيه، في بلد لا يسعد فيه أغلب الآباء باستضافة أبنائهم بعد المدرسة الثانوية بلا مقابل، إلا من رحم ربك.

وفي واحدة من أسوأ لحظات الإدارة الأميركية الحالية، وبعد خلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على بعض بنود الميزانية، اضطرت الحكومة الأميركية للإغلاق لمدة 35 يوماً، لم يحصل فيها الملايين من الأميركيين العاملين في الحكومة على أجورهم، الأمر الذي سبب لكثير منهم مشكلات كبيرة، بعدما ظهر أن أغلبهم يعيش "من أجر إلى أجر"، وأن تأخير حصولهم على الأجور لمدة أربعة أسابيع ربما يتسبب في طردهم من مساكنهم!

أبهرني نموذج الحياة على الحافة الذي عايشته في الولايات المتحدة، وليتنا نتعلم منه، لا مجرد الاستمرار في الحياة رغم الصعوبات، وإنما أيضاً العمل على تحسين الظروف، والانتقال إلى مراحل أعلى من الطموحات والنجاحات، بعد التعامل مع التهديدات التي تقربنا من الحافة على أنها "وضع طبيعي جديد"، لا يوقف عملنا ولا يسلمنا للنواح، وإنما يكون حافزا أقوى للقضاء على الصعوبات وتحقيق النجاحات، وإن بدا بعضها صعب المنال!
المساهمون