03 سبتمبر 2015
الحياة جنّة ممكنة... بالحب
لا تستمد الجنة قيمتها مما توفره من نعم وراحة وخلود، ليس من قيمة لأي مكان من دون إمكانية تعايش الإنسان فيه. مررت كثيراً بسر قيمتها، من دون المقدرة على استخلاص معناه من بين المعاني المفقودة في عمق الكلام الإلهي، من دون استشفافه من بين الآيات القرآنية. إلى أن أثقلت معاناة الوجود، بحروبها وصراعاتها العصبية المتطرفة، وعمقها الذاتي الانفعالي، الوعيَ بما يعتريه من تساؤلات حزينة حول العالم، ومحاولات تشخيص أسباب الداء الحقيقية، وسبل الخلاص والتخلص منه.
تضمنت الآية الكريمة "ونزعنا ما في صدورهم من غل" السر الذي جعل من الجنة جنة. هذا النزع إجراء وقائي سابق لدخولها، عملية قيصرية للروح تخلصها من آفاتها، من الأحقاد الدافعة للضغائن، المسببة للخلاف وتبعاته. فلو دخلها المرء، بكل انفعالاته السلبية، لحَوَّلها جحيماً، لدمّرها كما خرّب الأرض من قبل. ليكون من الضروري لسلامة العيش تحقيق التعايش الخالد، وتخليصه من منغصات الوجود الإنساني، وإفراغ هذا الكائن من الشر المتولد عن الحقد والكراهية، في أقصى درجاتهما المتمثلة في الغلّ المستبدل بالحب المتجلي في صورة الإخاء، "إخواناً على سرر متقابلين". لتتضح الرؤية الغائبة، في أن قيمة الجنة في الحب الذي يحتويها وتحتويه، وليس في أي شيء آخر... حب ما فيها، وحب من فيها لمن فيها، فالجنة حب، والحب جنة إذن، وكل المفاهيم التي تغذيها الأديان تنهار مع حقيقة سمو الحب وتغييره خصائص الأشياء.
وبعيداً عن مثالية استقراء نعيم الغيب، يقودنا التشخيص الدقيق للواقع الإنساني بمقاربة إنسانية تحليلية إلى اعتبار الحب قيمة أخلاقية ضرورية، لبناء أي نظام اجتماعي وحضاري سليم. فقد سبق أن اعتبر الإسكتلندي، آدم سميث، أن الأنظمة الاجتماعية تقوم على أسس ثلاثة منفصلة أو مجتمعة: العاطفة، المصلحة، والسلطة. ومن بين هاته المحددات الثلاث لطبيعة بنية العلاقات الاجتماعية، مع افتراض غياب العاطفة، تؤدي المصالح والسلطة إلى التناحر سواء في داخل المجتمع نفسه، أو بين المجتمعات المستقلة والمختلفة، نتيجة حتمية لغياب الرابط الانساني العاطفي المجرد في بنية علاقاتها. ويمكن أن يعود ذلك أيضا إلى ظرفية المصالح في الزمان والمكان، ومعاييرها الذاتية المسببة للخلافات، في أغلب الأحيان. وكذلك لقيام مفهوم السلطة في غياب الحب على التسلط القهري والعنف النفسي أو الجسدي. أما إذا ما تحالفت المصلحة والسلطة في تشكيل بنية مجتمع ما، فإنهما تفضيان، غالباً، إلى نظام استبدادي طبقي موجه نحو الداخل، أو عدواني موجه نحو الخارج. ونأخذ، مثالاً على ذلك الأنظمة الإقطاعية الاستبدادية، والامبريالية أو الفاشية.
ونظراً لأهمية الرابط المعنوي، وفي غياب حب بنيوي، تلجأ الأنظمة الاجتماعية إلى تعويض الفقر العاطفي في مجتمعاتها بعاطفةٍ جديدة موجهة، تضمن تماسك بنيتها الهشة، وتكرّس مصلحة السلطة وسلطة المصالح، عرفت باسم الانتماء. وذلك عبر استغلال ثقافاتها، بمكوناتها اللسانية والتاريخية والدينية والأسطورية، من أجل اختراع تقاليد وأيديولوجيات وثقافة جديدة، بمفاهيم تُذكي مشاعر وأفكار زائفة في مدارك الإنسان، وتوحد بين جزء صغير من العنصر الإنساني الموجود ظرفياً في بقعة وزمان محدودين، لتعزله وتميّزه عن العنصر الإنساني الآخر المتناثر خارج الإحداثيات الثقافية والجغرافية للمجتمع، أو للجماعة أو لطائفة معينة. فمن أجل الاجتماع، تحصل التفرقة، فتتحول العقيدة، والعرق، والوطن إلى قيم وميزة خاصة، تجعل من المرء، على الرغم من مساوئ انتمائه الواردة مميزاً، وفوق الآخرين المختلفين عنه والمخالفين له.
وسرعان ما تتلاشى سلمية الشعور المبدئي بالانتماء، لأنها ليست إحدى خصائصه الجوهرية،
بل مجرد طارئ مؤقت، يندثر مع غياب المقاومة العقلانية والمناعة المعرفية، تحت تأثير الانفعالات السلبية. وغالباً ما يتم ذلك وفق الاحتياجات الطارئة، في ظل تضارب مصالح السلطة، أو مصالح المجتمع أو الطائفة. فتُولَد العصبيات من الانتماء المشحون بالعواطف، للعشيرة، للقبيلة، للعقيدة أو للوطن. ويُغَذّيا الشعور بجرع وافية من الاعتزاز بالأنا، واحتقار الآخرين أو ربما كراهيتهم. وكلما ارتفعت نسبة حب المرء نفسه، لمصلحته ولسلطته يتغلغل الحقد والغل في نفسيته. وتعلو، جراء ذلك، قيمة إنسان على حساب انتقاص قيمة إنسان آخر وانتقادها، مساهمة بذلك في تجذر ثقافة استعداء عصبية مقيتة ووراثية، تُوظف في تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية، فتتسع، نتيجة كل هذه التفاعلات الذاتية والموضوعية، الهوة بين الإنسان والإنسان عند احتدام الصراع وتضارب المصالح، ضمن بنية المجتمع الواحد أو بين مجتمعات مختلفة.
ولا نناقش، هنا، ما قدمه ابن خلدون الذي اعتبر العصبية سبباً مباشراً في قيام الدول واستمرارها، إلى أن تقوم عصبية أخرى محلها، وقد استتب هذا المفهوم إلى وقتنا الحالي، وإن تبرأت الدول الحديثة من عصبيتها العرقية أو الدينية، إلا أن ثقافتها ما زالت متشبعة بهذا المفهوم، وبتلك المعاني التي احتوتها الطوائف والأحزاب السياسية والأيديولوجيات، بل ننظر في انعكاساتها السلوكية وعمقها الانفعالي. والناظر في آفات الصراع الإنساني عبر التاريخ، يقف حائراً أمام مخلفات العصبيات الفظيعة المستنكرة إنسانياً. وينعتها، ظلماً أو جهلاً، بالحيوانية، متناسياً أن الحيوانات على الأقل لا تقتل إلا مضطرة عند الحاجة، كما أن فعلها هذا مجرد من كل إحساس بحقد أو ضغينة. فالأسود عموماً لا تكره الظباء، ولا تحقد عليها. بينما تتفنن العصبيات في إلحاق الأذى بالآخرين، وتحول المواجهات بينها، كيفما كان نوعها إلى ساحة ثأر تاريخي.
تدفع موجة الكراهية المتغلغلة في اللاوعي المجتمع نحو التفكك الإنساني، وإن استمر التلاحم شكلياً وظرفياً مراعاة لمصالح أو رضوخا لسلطة. وفي هذا الخضم، تلقي الأطراف المسؤولية واللوم على بعضها البعض، في تراشق اتهامات حول أخطاء تاريخية، لم يرتكبها أي أحد منها. ليتضح أن الإشكالية الأساسية، من هذا المنظور، مرتبطة بطبيعة المشاعر المصاحبة للاختلافات العقيدية والعرقية والطبقية، وأعراضها الإدراكية والسلوكية المتطرفة والعدوانية، وليس إلى جوهر الاختلافات نفسها، لأنها من خصائص الوجود نفسه.
قوة المشاعر السلبية تحدد المسافة التي يتخذها المرء من الآخرين، فهي تقلص، أو تمدد،
مساحة كيانه وفرص قبوله لهم في بنيته الإدراكية، ومن ثم في تصوره لمجتمعه المثالي وشروط التعايش... فيحدث عند التفاعل العاطفي السلبي مع الأفكار إلى إقصاء لاواعٍ من خريطته الوجودية للآخرين المنتقَصين بصفات معينة (كفر، إلحاد، إرهاب، ظلامية، انحلال أخلاقي... إلخ) في بحثه عن سعادة مركبة، يحققها التجانس الأيديولوجي أو العرقي أو الديني... بينما تكمن سعادة المجتمع الحقيقية في قبول الاختلاف، وليس في رفضه، في التنوع المساهم في التطور. حيث تكون قدرة المجتمع على التعايش بين أطيافه المحدد الأساسي لبناء مجتمع سليم ومتماسك. ولا يتحقق ذلك إلا في وجود رابط عاطفي إيجابي إنساني. فقوة الحب التي تربط بين الأفراد بعضهم البعض، والمؤسسات تغير روح السلطة والمصالح، ومن ثم روح المجتمع الذي سيتشبع بمعاني الجنة المفقودة، فقط لافتقادنا المقومات الضرورية للتعايش بحب، وبكل انعكاساته السلوكية.
هذا الفقر الحسي ذو العمق الإدراكي يجثم على أرواحنا ووعينا، ويصرف عنا إمكانيات الخروج من مآزق السياسة والاقتصاد والاجتماع، ومن وضعنا التاريخي المتأزم منذ قرون... من استبداد، واستغلال، وفقر، وطائفية.
هذا الاستقراء البسيط، في بعديه الميتافيزيقي والواقعي، يجعل من الحياة جنةً ممكنة، لو تحقق فيها من الحب اليسير، مما هو محقق في الجنة الأخرى، وفيه تكمن حلول مشكلات الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
تضمنت الآية الكريمة "ونزعنا ما في صدورهم من غل" السر الذي جعل من الجنة جنة. هذا النزع إجراء وقائي سابق لدخولها، عملية قيصرية للروح تخلصها من آفاتها، من الأحقاد الدافعة للضغائن، المسببة للخلاف وتبعاته. فلو دخلها المرء، بكل انفعالاته السلبية، لحَوَّلها جحيماً، لدمّرها كما خرّب الأرض من قبل. ليكون من الضروري لسلامة العيش تحقيق التعايش الخالد، وتخليصه من منغصات الوجود الإنساني، وإفراغ هذا الكائن من الشر المتولد عن الحقد والكراهية، في أقصى درجاتهما المتمثلة في الغلّ المستبدل بالحب المتجلي في صورة الإخاء، "إخواناً على سرر متقابلين". لتتضح الرؤية الغائبة، في أن قيمة الجنة في الحب الذي يحتويها وتحتويه، وليس في أي شيء آخر... حب ما فيها، وحب من فيها لمن فيها، فالجنة حب، والحب جنة إذن، وكل المفاهيم التي تغذيها الأديان تنهار مع حقيقة سمو الحب وتغييره خصائص الأشياء.
وبعيداً عن مثالية استقراء نعيم الغيب، يقودنا التشخيص الدقيق للواقع الإنساني بمقاربة إنسانية تحليلية إلى اعتبار الحب قيمة أخلاقية ضرورية، لبناء أي نظام اجتماعي وحضاري سليم. فقد سبق أن اعتبر الإسكتلندي، آدم سميث، أن الأنظمة الاجتماعية تقوم على أسس ثلاثة منفصلة أو مجتمعة: العاطفة، المصلحة، والسلطة. ومن بين هاته المحددات الثلاث لطبيعة بنية العلاقات الاجتماعية، مع افتراض غياب العاطفة، تؤدي المصالح والسلطة إلى التناحر سواء في داخل المجتمع نفسه، أو بين المجتمعات المستقلة والمختلفة، نتيجة حتمية لغياب الرابط الانساني العاطفي المجرد في بنية علاقاتها. ويمكن أن يعود ذلك أيضا إلى ظرفية المصالح في الزمان والمكان، ومعاييرها الذاتية المسببة للخلافات، في أغلب الأحيان. وكذلك لقيام مفهوم السلطة في غياب الحب على التسلط القهري والعنف النفسي أو الجسدي. أما إذا ما تحالفت المصلحة والسلطة في تشكيل بنية مجتمع ما، فإنهما تفضيان، غالباً، إلى نظام استبدادي طبقي موجه نحو الداخل، أو عدواني موجه نحو الخارج. ونأخذ، مثالاً على ذلك الأنظمة الإقطاعية الاستبدادية، والامبريالية أو الفاشية.
ونظراً لأهمية الرابط المعنوي، وفي غياب حب بنيوي، تلجأ الأنظمة الاجتماعية إلى تعويض الفقر العاطفي في مجتمعاتها بعاطفةٍ جديدة موجهة، تضمن تماسك بنيتها الهشة، وتكرّس مصلحة السلطة وسلطة المصالح، عرفت باسم الانتماء. وذلك عبر استغلال ثقافاتها، بمكوناتها اللسانية والتاريخية والدينية والأسطورية، من أجل اختراع تقاليد وأيديولوجيات وثقافة جديدة، بمفاهيم تُذكي مشاعر وأفكار زائفة في مدارك الإنسان، وتوحد بين جزء صغير من العنصر الإنساني الموجود ظرفياً في بقعة وزمان محدودين، لتعزله وتميّزه عن العنصر الإنساني الآخر المتناثر خارج الإحداثيات الثقافية والجغرافية للمجتمع، أو للجماعة أو لطائفة معينة. فمن أجل الاجتماع، تحصل التفرقة، فتتحول العقيدة، والعرق، والوطن إلى قيم وميزة خاصة، تجعل من المرء، على الرغم من مساوئ انتمائه الواردة مميزاً، وفوق الآخرين المختلفين عنه والمخالفين له.
وسرعان ما تتلاشى سلمية الشعور المبدئي بالانتماء، لأنها ليست إحدى خصائصه الجوهرية،
ولا نناقش، هنا، ما قدمه ابن خلدون الذي اعتبر العصبية سبباً مباشراً في قيام الدول واستمرارها، إلى أن تقوم عصبية أخرى محلها، وقد استتب هذا المفهوم إلى وقتنا الحالي، وإن تبرأت الدول الحديثة من عصبيتها العرقية أو الدينية، إلا أن ثقافتها ما زالت متشبعة بهذا المفهوم، وبتلك المعاني التي احتوتها الطوائف والأحزاب السياسية والأيديولوجيات، بل ننظر في انعكاساتها السلوكية وعمقها الانفعالي. والناظر في آفات الصراع الإنساني عبر التاريخ، يقف حائراً أمام مخلفات العصبيات الفظيعة المستنكرة إنسانياً. وينعتها، ظلماً أو جهلاً، بالحيوانية، متناسياً أن الحيوانات على الأقل لا تقتل إلا مضطرة عند الحاجة، كما أن فعلها هذا مجرد من كل إحساس بحقد أو ضغينة. فالأسود عموماً لا تكره الظباء، ولا تحقد عليها. بينما تتفنن العصبيات في إلحاق الأذى بالآخرين، وتحول المواجهات بينها، كيفما كان نوعها إلى ساحة ثأر تاريخي.
تدفع موجة الكراهية المتغلغلة في اللاوعي المجتمع نحو التفكك الإنساني، وإن استمر التلاحم شكلياً وظرفياً مراعاة لمصالح أو رضوخا لسلطة. وفي هذا الخضم، تلقي الأطراف المسؤولية واللوم على بعضها البعض، في تراشق اتهامات حول أخطاء تاريخية، لم يرتكبها أي أحد منها. ليتضح أن الإشكالية الأساسية، من هذا المنظور، مرتبطة بطبيعة المشاعر المصاحبة للاختلافات العقيدية والعرقية والطبقية، وأعراضها الإدراكية والسلوكية المتطرفة والعدوانية، وليس إلى جوهر الاختلافات نفسها، لأنها من خصائص الوجود نفسه.
قوة المشاعر السلبية تحدد المسافة التي يتخذها المرء من الآخرين، فهي تقلص، أو تمدد،
هذا الفقر الحسي ذو العمق الإدراكي يجثم على أرواحنا ووعينا، ويصرف عنا إمكانيات الخروج من مآزق السياسة والاقتصاد والاجتماع، ومن وضعنا التاريخي المتأزم منذ قرون... من استبداد، واستغلال، وفقر، وطائفية.
هذا الاستقراء البسيط، في بعديه الميتافيزيقي والواقعي، يجعل من الحياة جنةً ممكنة، لو تحقق فيها من الحب اليسير، مما هو محقق في الجنة الأخرى، وفيه تكمن حلول مشكلات الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.