الحوار الليبي المُتجدّد والمُتعدّد
تسارعت أخيرا الأحداث في ليبيا والحوارات السياسية بشأن الأوضاع في هذا البلد، بأشكال مُتعدّدة وأدوات مختلفة، في إطار إيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية، على ما يبدو باجتهاد من الأطراف الداخلية، أكثر منها الدولية الفاعلة والمتدخلة في الملف الليبي. وكان أول هذه الحوارات في بلدة بوزنيقة المغربية بين أعضاء من المجلس الأعلى للدولة وأعضاء من البرلمان في طبرق، نتجت عنه تقاربات سياسية مهمة، بحسب مضيف هذا الحوار، وكذلك تصريحات الأطراف المتحاورة، فقد كان جوهر الحوارات، ومن ثم الاتفاقات المبدئية، تغير المناصب السيادية في الدولة، والمعايير التي يجب أن تتوفر في شاغليها مستقبلاً. كما نصّت التفاهمات في بوزنيقة على ضرورة تعديل المجلس الرئاسي، ليكون برئيس ونائبين موزعين على الأقاليم الثلاثة للدولة، من دون ذكر للأسماء. ولم ترتكز الحوارات على ما يدور في سرت، والتحرّكات العسكرية في المنطقة، وإن كان هناك حديثٌ خجول وغير معمّق عن تثبيت وقف إطلاق النار، الأمر الذي يستدعي تساؤلا بشأن مدى جدّية الحوارات وفاعليتها على الأرض وواقعيتها، ناهيك عن تحقيق مخرجاتها وتنفيذها في الواقع. وفي المقابل، يتجه حوار آخر بنا نحو الشرق في القاهرة، بين أعضاء من المجلس الأعلى للدولة وبرلمان طبرق (وآخرين) بأسماء محدودة، بين الطرفين، إلا أن هذا الحوار لم تعلن مخرجاته، ولا محاوره، ولا الموضوعات التي طرحت فيه، ناهيك عن نتائجه.
يجب البعد عن الخوض في المسارات التنفيذية، بما فيها المناصب السيادية للدولة، قبل اعتماد رؤية واضحة للحوار الليبي، تكون المرجعية فيها غير مُختلة
لم يكتف أطراف الصراع بهذين الحوارين فحسب، في بوزنيقه والقاهرة، فقد جرى حوار ثالث في موننترو السويسرية، بآليات وأسماء مختلفة عن سابقيه، الأمر الذي يوحي بأن الجميع يسعون إلى إيجاد حل للأزمة الحاصلة في ليبيا ظاهرياً، ولكن هذه الحوارات قد تفسّر على وجه آخر، أن الجميع يريد تحقيق مصالحه، وأن يكون في أي عمليةٍ سياسيةٍ قادمة، غير أن هذه الحوارات، وإن كانت جيدة في فتح آفاق الحل في البلاد، لن تسير في الطريق الصحيح، ولن تخرج من عباءة المصلحة الضيقة، كما أنها تكرار حوارات سابقة فاشلة، ما لم تعتمد على الآتي:
أولاً: النص على إيجاد الدستور في أقرب الآجال، وتذليل الصعاب نحو هذا الخيار بكل الطرق، وأن يكون هو خيار التوافق الأول، والابتعاد عن إنشاء قاعدة دستورية مصدرها الحوارات المتعدّدة؛ لأن ذلك سيؤدي إلى حلول آنية وليست دائمة، تنهار عند أبسط اختلاف، وحوار الصخيرات واتفاقه ليس ببعيد.
لا معنى لأي حوار لا يعمل على إنهاء المرحلة الانتقالية في أقرب وقت ممكن
ثانياً: العمل على إنهاء المرحلة الانتقالية في أقرب وقت ممكن، باعتبار أن هذه المرحلة تتجاذبها المصلحة من دون وجود رادع حقيقي للمحاسبة، بل ولا للاحتكام في حالة الاختلاف، إلى هذه الحوارات السياسية، وهي نفسها عادة ما تكون مبنيةً على المصلحة، وإن وجدت قاعدة دستورية فلن تكون ذات أثر عند الاختلاف، والإعلان الدستوري واتفاق الصخيرات شاهدان على ذلك.
ثالثاً: الواقعية في الحوار، وأن يشمل جميع الأطراف السياسية ككل، ناهيك عن الفاعلين على الأرض، حتى تكون له قاعدة مجتمعية، وسياسية، بل وثورية تساعد في تنفيذ الاتفاقات التي يمكن أن تصل إليها هذه الحوارات المتجدّدة والمتعدّدة.
لتناقض مواقف الأطراف الدولية تأثير كبير على مجرى الحوارات الليبية
رابعاً: البعد عن الخوض في المسارات التنفيذية، بما فيها المناصب السيادية للدولة، قبل اعتماد رؤية واضحة للحوار، تكون المرجعية فيها غير مُختلة، ولا تقبل التأويل الذي يتنافى معه التنفيذ، بمعنى أن يجتمعوا على رؤى متكاملة ومتوازنة، تنطلق بالبلاد في مسارات آمنة، تستوعب جميع التغيرات التي قد تطرأ بين الفينة والأخرى، وتقفز فوق الأطروحات الشخصية والرؤى المعتمدة على الذاتية، لتكون للدولة منهجاً سياسياً سليماً، لا يفقد بريقه عند أول منعطف، بل ينهض بالدولة ليبنيها، ويرسخ فيها مبدأ المواطنة والحرية وبناء المؤسسات تحت دولة العدل والقانون.
هذه أهم عوامل نجاح الحوارات المتعدّدة، وإلا فإنها سوف تدور في الدوامة السياسية الأولى، ولن تكون نافعة وناجعة. كما أن لتناقض مواقف الأطراف الدولية تأثير كبير على مجرى هذه الحوارات، والوصول بها إلى بر الأمان من عدمه. ومن جهة أخرى، الحوارات السليمة التي تخدم الوطن يجب أن تتخلص من النظرة الأحادية وإقصاء الآخرين، وأن تكون مبنيةً على الاستراتيجيات التي قد تواجه الدولة والثورة في المستقبل، وذلك كله بتكوين رؤى سياسية تتناسب مع الظرف والواقع الذي يمر فيه البلد، وأن تؤسس هذه الحوارات لمرحلة دائمة، لا انتقالية.