الحراك اللبناني ومحاذير القمع

28 سبتمبر 2015
+ الخط -
يدلل القمع الذي وصل إلى ذروته، مع مواجهة القوى الأمنية التابعة للسلطة اللبنانية فيه المتظاهرين والمعتصمين في السادس عشر من سبتمبر/أيلول الجاري، على أن السلطة حزمت أمرها، وقررت استخدام العنف، لمواجهة مطالب محتجي حملة "طلعت ريحتكم"، بدل الالتفات إلى حل مشكلاتهم التي هي عملياً مشكلات البلاد. كما أن الاعتداء على المعتصمين واعتقال أعداد من المتظاهرين، يومياً، دليلٌ على أن طاولة الحوار التي اجتمع حولها رموز السلطة اللبنانية، ما هي سوى طاولة للاتفاق على الطريقة المثلى لاجتثاث الحراك ورموزه، والإيغال في تدجين الموالين، مع عدم الاكتراث لعواقب مواجهة من هذا النوع على بلد موصوف أنه في حالة دوام الوقوف على شفير الانفجار.
يبدو أن الفريقين صامدان، كل في مواجهة الآخر. الشعب الذي فقد قدرة احتمال واقع أوصلته إليه الطبقة السياسية الحاكمة، وتبين أن أبناءه لن يعودوا إلى منازلهم، قبل تحقيق التغيير الذي بات ضرورة ومنقذاً للكيان المتهالك. وتحاول الطبقة السياسية التي تحاصصت البلاد، ووصلت نزاعاتها على الحصص إلى حد الاختلاف على القمامة، حماية كيانها الذي بات أشبه بجثة متفسخة "طلعت ريحتها" هي الأخرى، حمايته من السقوط على أيدي المحتجين. وبين إصرار هؤلاء وأولئك، يبرز الخوف من اشتباك بين الطرفين، يسببه الاستمرار في قمع التحرك، وهو ما لا يمكن ممارسته من دون تبعات كارثية، تصيب البلاد بكليتها.
يُظهر ازدياد عدد المتظاهرين وتنوع مطالبهم أن جمهور الأحزاب والقوى الطائفية أخذ يتململ من قياداته وشيوخ طوائفه، ويعي حقيقة هذه القيادات ورهنها جمهورها لتحقيق مصالحها، بحجة حماية أبناء الطائفة أو الحزب أو التيار أو الحي تارة، وبحجة امتلاكها وحدها مسالك الزواريب الحكومية التي يُجبر المواطن على سلوكها، من أجل إدارة شؤون حياته. ولطالما زرعت هذه القيادات بذور التعصب للطائفة، وكراهية الآخرين، ونزعة إلغاء الآخر بين أتباعها، لتسهل عليها قيادتهم. الأمر الذي استتب لها حقبة زمنية طويلة، بقيت قائمة، حتى فرغت البطون، وتعرّت هذه القيادات، ليظهر عقمها وعدم قدرتها، أو امتناعها عن تقديم ما يتجاوز الوعود، فأخذ الجمهور الانفضاض عنها، وخط طريقه تجاه إيجاد حلول، ربما لاقى في التحركات المطلبية التي انطلقت، منذ شهرين، سبيله إلى تحقيقها.
قد يكون هذا ما أزعج الطبقة السياسية اللبنانية من الحراك القائم في لبنان، زائداً عليه عدم تبعية المحتجين لأيٍّ من الأطراف السياسية السائدة، وعبورهم للطوائف في تحركهم، ففوّتوا على السلطة ممارسة عملية عض الأصابع والمزايدات لإجهاض التحرك. وبسب ذلك لجأوا، على ما يرى المحتجون، إلى التسويف، وإلى إعادة ضخ الوعود بقرارهم الالتفاف حول طاولة الحوار، للوصول إلى حلول، هي ظاهرة للعيان في شعارات المتظاهرين ومطالبهم، ولا تحتاج إلى حوار كي تنفذ. ومن مبدأ أن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن امتلكه، في حالتنا هذه، فإنه أدمن حبسه عن المواطنين، ليتمتع بمزاياه مع مقربيه، فإن سبيل المواجهة قد يكون خيار رموز السلطة، للبقاء في كراسيهم.
وباعتبار أنه ظهرت حملات ضد حركة "طلعت ريحتكم"، وبقية المجموعات المشاركة في الحراك المطلبي، واتضح ذلك في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. كما
خرجت حملات تخوين بحق المشاركين فيها، فرادى وجماعات، وكيلت الاتهامات بتلقي تمويل خارجي من هذه الدولة أو تلك. علاوة على تصوير التحرك على أنه مؤامرة خارجية، على غرار ما حصل في دولٍ عربية كثيرة، فلا يمكننا تفسير هذه الحملات، إلا أنها جزء من خطة لتهيئة بيئة مناسبة للانقضاض على التحرّك، يجري رويداً رويداً. ويجري إنضاجها، إلى حين تأتي ساعة الصفر المناسبة للقيام بذلك، عبر الأجهزة الأمنية والعناصر المليشاوية، مع ضمان أن رد فعل على عملية كهذه لن يكون كبيراً من الشارع الذي حُضِّر لها عبر تلك الحملات.
ولعل نزول مؤيدين لأحد السياسيين إلى الميدان، وتكسيرهم خيم المعتصمين أمام وزارة البيئة، والاعتداء عليهم أمام عدسات كاميرات القنوات التلفزيونية، وأعين رجال الأمن الذين تنحوا جانباً وأفسحوا لهم المجال، تأكيد على أن القرار صدر بالمواجهة، من دون إيلاء أي شأن للتبعات. كما أن وجودهم الدائم على أطراف المظاهرات، وأحياناً في مواجهتها، هي عملية تأسيس لفصل جديد، من فصول الأزمة اللبنانية التي بدأت مع انتشار القمامة في البلاد، منذ أكثر من شهرين، ومع تبيّن عامة الشعب أن إزالتها رهن بإزالة طبقة سياسية، أدمنت تأزيم البلاد. فصلٌ ربما يراد منه تأليب أبناء البلد الواحد ضد بعضهم بعضاً. قسم يريد مصلحة البلاد وسيادة القانون ومؤسسات الدولة فيها، ويسعى إلى ذلك بمطالبته برحيل السلطة، المقطوعة الرأس. وقسم، ربيب زعامات، ترعرع على تأليه الزعيم الذي هو عنده بمرتبة أعلى من الوطن وقضاياه، وقد وفرته ليومها الأسود الذي رأت أنه حلَّ مع الحراك الحالي.
ومع حضور مشهد أولى شرارات الحرب الأهلية باغتيال السياسي الوطني، معروف سعد، في مظاهرة مطلبية في صيدا سنة 1975. وفي وقت مازالت الحروب والمجازر الجارية هذه الأيام جرّاء قمع التحركات التي حصلت، في إطار ثورات الربيع العربي في بعض الدول العربية، ماثلة أمام الجميع، فالمؤكد أن الجميع يعرف محاذير اتباع أساليب القمع التي تم الأخذ بها في تلك البلدان، خصوصاً وأن تفجر الأوضاع لن يستغرق وقتاً طويلاً ليحصل، في بيئة لبنان المشبعة بالتوتر بين مكوناتها. مع فرق أن تبعات هذا التفجر من هجرة وهروبٍ لن تجد لها دروباً آمنة، كما حصل في أثناء الحرب الأهلية وحرب يوليو/تموز 2006، فالدروب المؤدية إلى سورية مغلقة، والمدن والقرى والبيوت التي آوت اللبنانيين وقتها، تهدمت. أمور تحتم على السلطة التروي في الهجوم، وتدفعها إلى التفكير في حلول بديلة، يكون أولها التنازل عن بعض امتيازاتها لصالح الشعب الذي قد لا يجد سوى البحر وراءه، وسوى السلطة أمامه.

دلالات
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.