الحراك الجزائري يلد تياراته: تجارب ناجحة أم موجة عابرة؟

11 يونيو 2019
مشاركة شبابية واسعة في جميع تظاهرات الجزائر (العربي الجديد)
+ الخط -
ساهم الحراك الشعبي في الجزائر، في بروز قيادات شابّة اتجهت إلى العمل السياسي وإلى تأسيس مجموعة من تجارب ائتلافات سياسية جديدة، تتجاوب مع روح الحراك الشعبي ومطالبه، لتشهد البلاد في الفترة الأخيرة بروزاً لافتاً لمجموعات وائتلافات سياسية جديدة قام بإنشائها ناشطون ومدونون ونقابيون، ضاقت عليهم أطر الأحزاب التقليدية التي لم تستطع استيعابهم.

ومع تطور الحراك والأحداث السياسية في الجزائر، برزت الحاجة إلى كتل ومجموعات سياسية تمثّل عمق الحراك الشعبي، وتُعبّر عن روحه السياسية التي أفرزتها تظاهرات ما بعد 22 فبراير/ شباط الماضي. وفي 16 مارس/ آذار الماضي، أعلن ناشطون تأسيس حركة سياسية جديدة ضمّت كوادر شبابية برزت في المشهد كناشطين ومدوّنين قبيل بدء الحراك الشعبي بقليل، بعد إخفاق لافت للقوى السياسية التقليدية المعارضة في تحقيق تقدّم على صعيد تحريك الشارع، وفرض مواقف وإحباط المسارات التي كانت السلطة تقود إليها البلاد. ويعتقد هؤلاء الشباب والناشطون، أن الأطر الحزبية التقليدية في الساحة السياسية في الجزائر باتت غير قادرة على استيعاب الناشط السياسي، بسبب ترهل أدوات عملها وأفكارها السياسية، وتورط قطاع غالب منها مع النظام في الفترة السابقة، وعدم قابلية الحراك الشعبي لها كمعبّر عن أفكاره ومطالبه.

وفي هذا السياق، قال الناشط في حركة "عزم" فيصل عثمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن فكرة تأسيس وإطلاق كيان سياسي يتجاوز الأطر التقليدية، سبقت بقليل الحراك، مشيراً إلى أن الحراك الشعبي ضم توجّهات سياسية ومدارس أيديولوجية مختلفة، و"تمثّل كل كتلة سياسية جديدة في نهاية المطاف اتجاهاً معيّناً داخل الحراك، فهذا الأخير ليس منسجماً وفق توجّه سياسي واحد، وما هذه الحركات الجديدة سوى إفرازات لفسيفساء الحراك الشعبي"، موضحاً أن "حركتنا عزم، تسعى إلى الخروج من الإطار التقليدي للأحزاب السياسية، لجهة الهيكلية والتنظيم، وتفاعلها مع المستجدات التي تطرأ على الساحة السياسية، وطريقة تعاملها مع السلطة والواقع السياسي".

مجموعة ناشطين سياسيين آخرين، بادروا إلى إنشاء كتلة سياسية جديدة باسم "منبر الجزائريين الأحرار"، ضمّت كوادر سياسية وجدت نفسها في قلب الحراك الشعبي، وقادت المسيرات المناوئة للولاية الرئاسية الخامسة لعبدالعزيز بوتفليقة. وأكد الناشط والقيادي في "المنبر" نور الدين خذير، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن فكرة تأسيس هذا الفضاء السياسي بدأ منذ انطلاق الحراك في 22 فبراير الماضي، موضحاً "أننا كمجموعة من الشباب نحضر المسيرات كباقي أفراد الشعب، ونتفاعل مع مطالب الحراك في الشارع وفي مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن إحساسنا بالمسؤولية وقناعتنا بأن دورنا كمثقفين وكنشطاء سياسيين نملك رصيداً معتبراً في النشاط السياسي والنقابي والجمعوي، كما نملك قناعات نريد لها أن تجد مكاناً في الحراك وفي توجيه دفته، وكذلك من أجل عدم ترك المجال لاختراق الحراك وتغيير مساره وأهدافه بما لا يصبّ في مطالب التغيير الحقيقية، كل ذلك دفعنا إلى التفكير في عمل ميداني ومنسق منذ الجمعة الخامسة للحراك نهاية شهر مارس/ آذار الماضي". وأضاف: "أمام هذا التراكم ارتأينا أن نؤطر عملنا في فضاء يصبح عنواناً لمجموعتنا، ويكون منبراً لكل من يؤمن بمطالب الحراك في إقامة دولة الحرية والعدالة والديمقراطية في إطار ثوابت الأمة ومرجعية بيان أول نوفمبر، وكي نفسح من خلاله المجال لكل الفئات والطاقات الحيّة، ليكون حلقة للمساهمة في تقديم حلول للأزمة ومناقشة مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد".

ومع الزخم الكبير للحراك الشعبي الذي أتاح فرصاً واسعة للكوادر السياسية الشابّة بالبروز، فإن المجموعات السياسية الجديدة تحاول أن تأخذ مساحة في المشهد الجزائري، وهي تعتقد أن الأحزاب السياسية التقليدية عجزت عن شغلها، سواء بسبب الضعف في تأطير الشارع واختلال العلاقة مع الشعب، أو التضييق الذي كانت تمارسه السلطة.
وفي السياق، اعتبر الناشط في حركة "عزم" فيصل عثمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الأحزاب الحالية تم تجاوزها شعبياً، ونبذها الناخب والمُقاطع للانتخابات والمتابع للمشهد السياسي، والدليل على ذلك أن تلك الأطر لم تستطع تأطير الحراك الشعبي ولا توجيهه فضلاً عن الدعوة إليه، بل إن بعض رؤساء الأحزاب تعرضوا للطرد من المسيرات، ومن شارك منهم لم يستطع إلقاء كلمة أو خطاب".

وإضافة إلى ذلك تستند الكتل السياسية الفتية أيضاً في وجودها، على محاولة استغلال التشوّه البالغ لصورة الحزب السياسي التقليدي ونفور الفاعل المدني منها. إضافة إلى أن تلك الكتل الجديدة تمثّل في الوقت نفسه فضاءً للكثير من النشطاء السياسيين، الذين ضاقت بهم الأطر الحزبية التي كانوا ينشطون فيها، وغادروها بسبب خلافات ومواقف أو لعدم قدرتها على استيعابهم. وبرأي القيادي في "منبر الأحرار" نور الدين خذير، فإن "أهم سمات الحراك هي العفوية وعدم بروز ممثلين وقيادات له، وهذا سمح ببروز ناشطين سياسيين غير تقليديين، وكتل ناشطة جديدة تحاول أن تكسب حيزاً في هذا الزخم الكبير، وكلها تشترك في ترديد لازمة عدم تمثيل الحراك"، مضيفاً: "شيء طبيعي أن يحدث ذلك لأنه لا توجد جهة حزبية أو مجتمعية دعت للحراك وأخرجت الجموع، ما انعكس سلباً على نظرة الشارع بأن دور الأحزاب المعارضة التقليدي يجب أن يتغيّر لأنه لم يعد يستوعب آمال الجماهير في التغيير، ولم يستطع أن يجسد مطالبها أو أن يكون قوة ضاغطة على الأقل في العشرين سنة الماضية".


وعلى الرغم من عوامل نقض التجربة في الحقل السياسي والعودة القوية للأحزاب التقليدية إلى المشهد بعد الحراك الشعبي، إلا أن بعض المجموعات السياسية الفتية بادرت إلى تقديم رؤى ومقترحات سياسية تقدمية. غير أن ذلك لا يلغي سؤالاً مركزياً عما إذا كانت هذه المجموعات الجديدة مجرد لحظة سياسية عابرة، وعن مدى قدرتها على الاستمرار في الحقل السياسي ومنافسة الأحزاب التقليدية في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ولا يبدي الناشطون في الكتل السياسية الجديدة مخاوف بهذا الشأن، وبرأي الناشط في حركة "عزم" فيصل عثمان، فإن "كل كتلة سياسية واستمراريتها ترتبط أساساً بما تحمله من فلسفة سياسية وبرنامج عصري، فإذا كانت الرؤى صلبة ومتماسكة فستستمر وتزيح الأحزاب القديمة، أما إذا كانت فورة حماسة فستندثر كما حصل مع تشكيلات سابقة". وأضاف: "الحزب السياسي الذي لا يمثّل قوة اقتراح ومبادرة، مآله الخمول أو الزوال، وعلى المجموعات الجديدة النأي بنفسها عما ساد الساحة السياسية مما نسميه بلا خجل النفاق السياسي والرومانسيات الزائفة"، مشيراً إلى أن "تقديم الإضافة للمشهد السياسي تفرض صياغة خطاب متزن صالح، في لبّه، لكل الظروف والمستجدات، وذلك يستوجب أن تقوم الحركة السياسية على فلسفة سياسية واضحة، وهذا هو الضامن الوحيد للتميز من جهة، ولأن تكون الحركة من جهة أخرى رائدة تيار سياسي ناشئ عصري يعزز المنافسة والمشاركة السياسية الفعالة، وهو المطلوب حالياً في ظل تصحّر الجزائر سياسياً".

لكن ناشطين آخرين يعتبرون أن طرح سؤال الاستمرارية في الحقل السياسي ليس أولوية في الوقت الحالي، وأن الفضاءات الجديدة تستفيد من عدة عوامل، أبرزها تحررها الكامل من أي التزامات سياسية أو تورط مع النظام السابق. ورأى نور الدين خذير، أن المرحلة الحالية هي مرحلة التعبئة والتعريف وبلورة الحلول والتصورات، قائلاً: "وحده الصندوق يبرز حجم كل تكتل سياسي جديد إذا خاض انتخابات نزيهة طبعاً. فإذا نجح الحراك في مطالبه وتم تغيير قوانين الأحزاب والجمعيات لتكون أكثر حرية واستقلالية في ممارسة العمل السياسي، فمن المؤكد أن هذه الكتل الجديدة سيكون لها دور ووجود مهم في الحقل السياسي نظراً لتحررها من عقدة العمل مع النظام السابق، وهي ليست أسيرة مواقف معينة ولا خيارات سابقة، وستستفيد أيضاً من عودة الروح والرغبة في ممارسة السياسة لدى الجزائريين". وأشار إلى أن ذلك لا يلغي دور الأحزاب التقليدية التي "ستتاح لها الفرصة لأول مرة لتعرف حجمها الحقيقي عن طريق الصندوق الشفاف، كما أنها تملك ورقة شرعية النضال والمقاومة، كما تملك أغلبها مظلومية تغوّل السلطة ضدها، إضافة إلى رصيدها من القيادات وشبكات العلاقات المتعددة ومصادر التمويل التي أوجدتها منذ نشأتها".

وحتى الآن لم تأخذ هذه المجموعات السياسية نصيبها الكامل من الإنصات إلى طروحاتها الجديدة، في ظل صخب سياسي وتطور سريع للأحداث على أكثر من صعيد. لكن عدم التفات الإعلام بشكل كافٍ إلى التجارب السياسية الفتية في الوقت الحالي، واستمرار تركيزه على المؤسسات الحزبية التقليدية في الساحة، لم يقلص من مساحة وجود هذه المجموعات الجديدة، إذ استعاض النشطاء فيها والقيادات الشابة بالإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي، للتنسيق وطرح الأفكار والمبادرات السياسية. وفي هذا السياق، أشار الناشط خذير إلى أن "وجود وسائل التواصل الاجتماعي ساعد في تشكيل كتلة من الناشطين، الذين يتبنون شعارات مركزية في الحراك تخص المرجعية النوفمبرية للحراك والوحدة الوطنية، ونجحنا عبر ذلك مثلاً في رفع شعاراتنا منذ الجمعة في أكثر من 35 ولاية، بفعل شبكة من العلاقات مع النشطاء، منهم من تواصلنا معهم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم من لدينا معرفة مسبقة بهم وكانوا كباقي الجزائريين في حالة عزوف عن النشاط السياسي".

من جهته، رأى الكاتب في الشأن السياسي عمر لشموت، أن الملمح الأول للفضاءات السياسية الجديدة إيجابي في تعاطيها مع الشأن السياسي وتطورات الأحداث. وقال لشموت في حديث لـ"العربي الجديد"، إن تجارب الائتلاف السياسي الشبابية الجديدة يمكن النظر إليها على أنها "مجموعة من الإرادات الطيبة اجتمعت على قواسم مشتركة وأفكار محددة، وتحاول التفاعل مع صيرورة الحراك، ورأينا تفاعل حركة عزم ومنبر الأحرار مع مختلف الأحداث الأخيرة". وأشار إلى أن "مستقبل هذه المبادرات يتوقف على عدة عوامل، فالعامل التنظيمي غير العامل التنظيري، وبالتالي الأمر يتوقف على رؤية أصحاب المبادرة كي يتحول الإطار التنظيري إلى التأسيسي، وهذا يتطلب جهداً آخر ونفساً طويلاً والقدرة على العمل الجمعوي التراتبي".

وفي ظل هذا الواقع، ثمة سؤال يُطرح حول ما إذا كانت هذه التجارب السياسية الجديدة تعبّر عن المطالب العميقة للحراك وروحيته، أم أنها موجة سياسية عابرة قد لا تستمر مع الوقت ومع تزايد الحاجات والمسؤوليات التي يتطلبها الحقل السياسي، فيما يبدي كثيرون تفاؤلاً على صعيد أن تمثّل الكتل الجديدة المطالب والصوت الشعبي. لكن الفترة المقبلة ستبرز مدى قدرة الكوادر السياسية الشابّة على الاستمرار والمنافسة في الاستحقاقات الكبرى، أو حاجتها بعد إلى تدرب على العمل السياسي المكلف.

دلالات