04 نوفمبر 2024
الحجاب.. الصراع الاجتماعي وسيمياء الصورة
تعود قضية الحجاب لتثير، كعادتها، جدلا واسعا، لكن الجديد مجابهة المتمسكين بالحجاب بدعوات علنية وصريحة إلى السفور، تتعالى هنا وهناك. وبعد أن كانت سابقاً خجولة وفردية، بدأت تشكل حراكاً اجتماعيا. لا يدل ذلك على شجاعة علمانية مستجدة، بقدر ما يدل على الحدّة التي بدأ يكتسبها الصراع الاجتماعي، في ظل فوضى سياسية واجتماعية غير مسبوقة.
منذ فجر التاريخ البشري المكتوب، يكتسب شَعر الرأس دلالته الرمزية، ليشير إلى شر وخطر يستوجبان الحذر، فبعد أن كشفت دليلة سرّ جبروت شمشوم، أوقعت به، وسلمته إلى قومها، لكن شعر رأسه نما بسرعةٍ كانت كافيةً ليستعيد قواه، ويهدم المعبد على رأسه ورأس أعدائه. يشترط بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس (الإنجيل)، أن يكون للمرأة سلطان على رأسها في أثناء الصلاة من أجل الملائكة. التراتبية الهرمية في مجتمع ذكوري حاضرة هنا، أيضا، فلا ينبغي أن يغطي الرجل رأسه، لكونه صورة الله ومجده، أما المرأة فهي مجد الرجل. هكذا يتحول الحجاب (غطاء الرأس)، وربما للمرة الأولى، من كونه مسألة مدنية، كجزء من اللباس تتعلق بالطقس والبيئة، إلى فريضة دينية.
وللباس في القرآن رمزيته أيضاً، فإذا كانت الطاعة سترا "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى"، فإن العُري رمز للتمرد على الخالق "فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى آدم ربه فغوى". ومع استمرار الخلاف حول تأويل لفظتي "جلباب" و"خمار" الواردتين في القرآن، وسواء عنى الحجاب غطاء الرأس أم لباساً محتشما يغطي الجسد فقط، فإنه يتحول من مسالة مدنية إجرائية، قُصِد منها تمييز الحُرّات من نساء المسلمين لحمايتهن من تحرش المنافقين، طالما كانت حجتهم عدم قدرتهم على تمييز الأَمَة من الحُرّة بعد غياب شمس يثرب (يا أيها النبي، قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)، يتحول ليصبح لاحقاً، عبر تنظير فقهي، فريضة دينية.
في التراث الإسلامي، تباينت المواقف من الحجاب بمعنييه، العام (الستر) والخاص (غطاء الرأس). هناك تيار عقلي تأويلي انحاز إلى السفور، وآخر نصّي، انحاز إلى الحجاب. في (رسالة القيان)، يذكر الجاحظ (ق 3هـ) أمثلة عديدة لاختلاط الرجال والنساء ما قبل الإسلام وبعده، إذ لم يكن بين رجال العرب و"نسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة، ولا لحظة الخلْسة، دون أن يجتمعوا عن الحديث والمسامرة... ويسمى المولع بذلك من الرجال الزير، المشتق من الزيارة، وكل ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر". فالأصل إباحة الاختلاط، والمنكر كاستثناء لا يبطل الأصل. ولم يُلغِ الحجاب الخاص بزوجات النبي، تكريما للنبي وتمييزا لنسائه، عُرْف العرب في الاختلاط، فبقيت "الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام"، لكن التشدد به "أمر أفرط فيه المعتدون حد الغيرة... فصار عندهم كالحق الواجب".
تعكس مؤلفات الفقه في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) هيمنة أولئك "المعتدون حد الغيرة"، لا سيما كتابي جلال الدين السيوطي، "إسبال الكساء على النساء" و"البعث". حيث يؤكد السيوطي ضرورة إقصاء النساء عن فضاءات الرجال، ستراً لهن وحفاظاً على عفتهن. ويرى أن الأنوثة، من حيث طبيعتها، تقتضي الستر، وإذا كان الرّق يزول بالموت، فإن الأنوثة المقتضية للستر مستمرة. بل يحسم موقفه بعد تردد، فيذهب إلى القول إن النساء هم من المحجوبين عن رؤية الله يوم القيامة، فيكون حجابها في الدنيا وسترها من باب أولى.
يُعنى الإسلامويون، معتدلين ومتطرفين، عناية فائقة بأدق تفاصيل اللباس والمظهر، فلا يقتصر لباس المرأة على كونه فريضة دينية، بل تتسع دلالته، ليحوز بعداً وجودياً ويصبح ركناً أساسياً من أركان التدين الاجتماعي. فللباس، سواء تعلق بالرجل أو المرأة، سيمياؤه التي ترجع، في رمزيتها، إلى مقاصد دينية تعبدية، وإلى حقيقة تقع في صلب الانتماء الحضاري والتميز الثقافي المطلوب.
في كتابه (الحجاب)، يأخذ أبو الأعلى المودودي على دعاة تحرر المرأة في القرن التاسع عشر، ليبراليين وإصلاحيين، انبهارهم بحرية المرأة الغربية، فدفعتهم نظرة الازدراء الغربية إلى الحجاب والنقاب والحرم، إلى محاولة مجاراة التمدن الغربي، وهم إما مخدوعون عن أنفسهم أو دهاة خادعون، وكلاهما أسهم في سحب ذيل الخفاء عن المحرمات الحقيقية لحركته، وحاول أن يظهرها بمظهر حركة عقليةٍ، بدلا من إظهارها حركة عاطفية. وفي مقدمة طبعة كتابه المصدرة إلى القراء العرب، يعّبر عن قلقه مما شاهده في البلدان العربية من تبجح المرأة المسلمة "بالعري والفتنة وشدة ولوعها باقتفاء آثار أختها الغربية"، والذي يفوق ما لمسه عند المرأة المسلمة في باكستان والهند. فإذا كان اللباس في الحضارة الغربية لمجرد الزينة لا الستر، فإن اللباس في الإسلام هو للستر لا للزينة. وعند المودودي "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم". هذه القوامة أساس التنظيم الأسري، والحديث النبوي يتوعد "من أفسد امرأة على زوجها فليس منا". فالصلة بين المرأة والرجل (على طريقة المودودي) أساس التمدن وملاك أمره. ولا ندري إلى أي حد استطاع المودودي أن يسلم، وغيره، من ردود الأفعال العاطفية، في ظل الصراع على الصورة الحضارية الذي يفترضه ويزكيه في آن معاً.
ومنذ المودودي، قوامة الرجل على المرأة، وضمان عدم انحرافها عن طبيعتها الأنثوية وما تطلبه من وظيفة اجتماعية تستوجب الطاعة والتزام الحرم، وغيرها من قيود في الحركة والاجتماع، الضرورية للحفاظ على النظام الأسري الذي تشكل "الفتنة" ألد أعدائه، كلها أمور يدّعيها الخطاب الأصولي مبررات عملية للحجاب، لكنها، في الحقيقة، على العكس، إذ ما يراد تكريسه عملياً واقعاً اجتماعياً، عبر تبريره دينيا، برفع الحجاب إلى رتبة فريضة شرعية.
تفكيك الخطاب الأصولي قبل محاولة خلخلة الوضعية الاجتماعية التي يهيمن فيها هذا الخطاب، بات مسألة ضرورية. لا يمكن الانتقاص من حق التعبير السلمي عن الرأي، حتى بدعوى الاستفزاز، مهما كان نوعه، فلا يوجد ما هو أكثر استفزازاً من واقعنا المتردي، لكن المرأة التي ترتدي الحجاب، بحكم بيئتها لا بحكم القناعات، لن تتمكن، ببساطةٍ، من خلعه في ساحة عامة، بناء على دعوة من أحد، كما أنه قد لا تتوفر لامرأة الجرأة على ارتداء "ميني جيب" في يوم مشهود، إن لم تكن سابقاً ارتدت ما يشابهه.
لن يزيد عدد السافرات، ولن يتناقص عدد المحجبات، بالبساطة المفترضة، فقضية تحرير المرأة أعقد من أن تكون كمّاً، وأعمق من الصورة وسيميائها، وإلا بقينا في دائرة ردود الأفعال. هي قضية شاقة، تعكس صراعاً اجتماعيا، يتطلب حسمه مسيرة طويلة من التحولات الاجتماعية، والإنجازات على صعيد التحرر بمفهومه العام والشامل.
منذ فجر التاريخ البشري المكتوب، يكتسب شَعر الرأس دلالته الرمزية، ليشير إلى شر وخطر يستوجبان الحذر، فبعد أن كشفت دليلة سرّ جبروت شمشوم، أوقعت به، وسلمته إلى قومها، لكن شعر رأسه نما بسرعةٍ كانت كافيةً ليستعيد قواه، ويهدم المعبد على رأسه ورأس أعدائه. يشترط بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس (الإنجيل)، أن يكون للمرأة سلطان على رأسها في أثناء الصلاة من أجل الملائكة. التراتبية الهرمية في مجتمع ذكوري حاضرة هنا، أيضا، فلا ينبغي أن يغطي الرجل رأسه، لكونه صورة الله ومجده، أما المرأة فهي مجد الرجل. هكذا يتحول الحجاب (غطاء الرأس)، وربما للمرة الأولى، من كونه مسألة مدنية، كجزء من اللباس تتعلق بالطقس والبيئة، إلى فريضة دينية.
وللباس في القرآن رمزيته أيضاً، فإذا كانت الطاعة سترا "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى"، فإن العُري رمز للتمرد على الخالق "فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى آدم ربه فغوى". ومع استمرار الخلاف حول تأويل لفظتي "جلباب" و"خمار" الواردتين في القرآن، وسواء عنى الحجاب غطاء الرأس أم لباساً محتشما يغطي الجسد فقط، فإنه يتحول من مسالة مدنية إجرائية، قُصِد منها تمييز الحُرّات من نساء المسلمين لحمايتهن من تحرش المنافقين، طالما كانت حجتهم عدم قدرتهم على تمييز الأَمَة من الحُرّة بعد غياب شمس يثرب (يا أيها النبي، قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)، يتحول ليصبح لاحقاً، عبر تنظير فقهي، فريضة دينية.
في التراث الإسلامي، تباينت المواقف من الحجاب بمعنييه، العام (الستر) والخاص (غطاء الرأس). هناك تيار عقلي تأويلي انحاز إلى السفور، وآخر نصّي، انحاز إلى الحجاب. في (رسالة القيان)، يذكر الجاحظ (ق 3هـ) أمثلة عديدة لاختلاط الرجال والنساء ما قبل الإسلام وبعده، إذ لم يكن بين رجال العرب و"نسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفَلْتة، ولا لحظة الخلْسة، دون أن يجتمعوا عن الحديث والمسامرة... ويسمى المولع بذلك من الرجال الزير، المشتق من الزيارة، وكل ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المنكر". فالأصل إباحة الاختلاط، والمنكر كاستثناء لا يبطل الأصل. ولم يُلغِ الحجاب الخاص بزوجات النبي، تكريما للنبي وتمييزا لنسائه، عُرْف العرب في الاختلاط، فبقيت "الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عاراً في الجاهلية، ولا حراماً في الإسلام"، لكن التشدد به "أمر أفرط فيه المعتدون حد الغيرة... فصار عندهم كالحق الواجب".
تعكس مؤلفات الفقه في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) هيمنة أولئك "المعتدون حد الغيرة"، لا سيما كتابي جلال الدين السيوطي، "إسبال الكساء على النساء" و"البعث". حيث يؤكد السيوطي ضرورة إقصاء النساء عن فضاءات الرجال، ستراً لهن وحفاظاً على عفتهن. ويرى أن الأنوثة، من حيث طبيعتها، تقتضي الستر، وإذا كان الرّق يزول بالموت، فإن الأنوثة المقتضية للستر مستمرة. بل يحسم موقفه بعد تردد، فيذهب إلى القول إن النساء هم من المحجوبين عن رؤية الله يوم القيامة، فيكون حجابها في الدنيا وسترها من باب أولى.
يُعنى الإسلامويون، معتدلين ومتطرفين، عناية فائقة بأدق تفاصيل اللباس والمظهر، فلا يقتصر لباس المرأة على كونه فريضة دينية، بل تتسع دلالته، ليحوز بعداً وجودياً ويصبح ركناً أساسياً من أركان التدين الاجتماعي. فللباس، سواء تعلق بالرجل أو المرأة، سيمياؤه التي ترجع، في رمزيتها، إلى مقاصد دينية تعبدية، وإلى حقيقة تقع في صلب الانتماء الحضاري والتميز الثقافي المطلوب.
في كتابه (الحجاب)، يأخذ أبو الأعلى المودودي على دعاة تحرر المرأة في القرن التاسع عشر، ليبراليين وإصلاحيين، انبهارهم بحرية المرأة الغربية، فدفعتهم نظرة الازدراء الغربية إلى الحجاب والنقاب والحرم، إلى محاولة مجاراة التمدن الغربي، وهم إما مخدوعون عن أنفسهم أو دهاة خادعون، وكلاهما أسهم في سحب ذيل الخفاء عن المحرمات الحقيقية لحركته، وحاول أن يظهرها بمظهر حركة عقليةٍ، بدلا من إظهارها حركة عاطفية. وفي مقدمة طبعة كتابه المصدرة إلى القراء العرب، يعّبر عن قلقه مما شاهده في البلدان العربية من تبجح المرأة المسلمة "بالعري والفتنة وشدة ولوعها باقتفاء آثار أختها الغربية"، والذي يفوق ما لمسه عند المرأة المسلمة في باكستان والهند. فإذا كان اللباس في الحضارة الغربية لمجرد الزينة لا الستر، فإن اللباس في الإسلام هو للستر لا للزينة. وعند المودودي "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم". هذه القوامة أساس التنظيم الأسري، والحديث النبوي يتوعد "من أفسد امرأة على زوجها فليس منا". فالصلة بين المرأة والرجل (على طريقة المودودي) أساس التمدن وملاك أمره. ولا ندري إلى أي حد استطاع المودودي أن يسلم، وغيره، من ردود الأفعال العاطفية، في ظل الصراع على الصورة الحضارية الذي يفترضه ويزكيه في آن معاً.
ومنذ المودودي، قوامة الرجل على المرأة، وضمان عدم انحرافها عن طبيعتها الأنثوية وما تطلبه من وظيفة اجتماعية تستوجب الطاعة والتزام الحرم، وغيرها من قيود في الحركة والاجتماع، الضرورية للحفاظ على النظام الأسري الذي تشكل "الفتنة" ألد أعدائه، كلها أمور يدّعيها الخطاب الأصولي مبررات عملية للحجاب، لكنها، في الحقيقة، على العكس، إذ ما يراد تكريسه عملياً واقعاً اجتماعياً، عبر تبريره دينيا، برفع الحجاب إلى رتبة فريضة شرعية.
تفكيك الخطاب الأصولي قبل محاولة خلخلة الوضعية الاجتماعية التي يهيمن فيها هذا الخطاب، بات مسألة ضرورية. لا يمكن الانتقاص من حق التعبير السلمي عن الرأي، حتى بدعوى الاستفزاز، مهما كان نوعه، فلا يوجد ما هو أكثر استفزازاً من واقعنا المتردي، لكن المرأة التي ترتدي الحجاب، بحكم بيئتها لا بحكم القناعات، لن تتمكن، ببساطةٍ، من خلعه في ساحة عامة، بناء على دعوة من أحد، كما أنه قد لا تتوفر لامرأة الجرأة على ارتداء "ميني جيب" في يوم مشهود، إن لم تكن سابقاً ارتدت ما يشابهه.
لن يزيد عدد السافرات، ولن يتناقص عدد المحجبات، بالبساطة المفترضة، فقضية تحرير المرأة أعقد من أن تكون كمّاً، وأعمق من الصورة وسيميائها، وإلا بقينا في دائرة ردود الأفعال. هي قضية شاقة، تعكس صراعاً اجتماعيا، يتطلب حسمه مسيرة طويلة من التحولات الاجتماعية، والإنجازات على صعيد التحرر بمفهومه العام والشامل.