الحاجة الفلسطينية للفرح

05 اغسطس 2016

دبكة في عرس فلسطيني جماعي في غزة (27فبراير/2015/Getty)

+ الخط -
من خزّان الألم المتواصل عقوداً، تمت حياكة التجربة الفلسطينية، حتى كادت الأحزان تصبح الانعكاس الطبيعي لحياة الفلسطينيين في مرآة أنفسهم، وفي مرآة الآخرين. فلا مبالغة في القول إن الألم أصبح الصورة النمطية للفلسطينيين، والتي ذهبوا فيها بعيدا، إلى حدود الاحتفال بالشهادة، بوصفها عرسا للشهيد.
نعم، في التجربة الفلسطينية هناك فائض كبير من الألم، ليس لأن الفلسطينيين يرغبون بتعذيب أنفسهم، ويرون أنفسهم أقل استحقاقا للفرح من الآخرين، بل لأن التجربة الفلسطينية كانت معجونةً من القسوة والمعاناة وطول الفترة التاريخية القاسية التي أنتجت معاناةً جماعيةً وفرديةً، من الصعب توصيفها بكلمات، حيث، بات غير الطبيعي هو المرادف الطبيعي لحياة الفلسطينيين الذين لم يعرفوا يوما أي وضع طبيعي في تاريخهم الحديث على الإطلاق. عدد هائل من قصص الألم والمعاناة التي لا تنتهي، وهي من الكثرة إلى درجة أن روايتها تثقل كاهل أي سامع، وحتى لو كان متعاطفاً مع الفلسطينيين ومؤيدا لهم. فهذه التجربة التي عانى فيها شعبٌ كامل، بكل قطاعاته، وفي كل أماكن تجمعاته، في الوطن وفي الشتات، من هول الأذى البشري بكل صنوفه، أذى ما لا يمكن وصفه وتجسيده بكلمات، معاناة لم تكن على يد الأعداء فحسب، بل كانت على يد الأخوة الأعداء بوحشيةٍ لم تقلّ عن التي عاناها على يد أعدائه. أوغل الكل في دم الفلسطينيين المستباح. أصبح الألم صورة الفلسطيني الحقيقية. نعم، أصبح الشهيد والمعاق والأسير والشريد والطريد صورتنا. كل هذه الصور من المعاناة جمعت في ألبوم تجربتنا الفلسطينية، وباتت تغطي كل صفحاته.
لا ندّعي احتكار الألم، ولا نتمناه للآخرين، فليس هناك في هذا العالم ما يستحق معاناة طفل واحد. لكن ألمنا في كل مسار الطريق الذي سرناه، أو الذي أجبرنا على السير فيه. ولأن الحياة تستمر، ولا تنتظر أحداً، كان علينا أن نصنع حياتنا من الوسائل الطبيعية لصناعة الحياة. لكن، في شروطٍ غير طبيعية، من المدرسة والدراسة والشعر والرواية والغناء، من الزرع والحصاد ومن الزيتون ومن معاصر الزيت ومن هدير المطاحن، من النكتة المرّة وبسمة الأطفال وقوة إرادة الحياة فينا، التي تجعلنا، كل مرة، ننبعث من الرماد، ليس لأننا نحب البطولة، بل لأنها فرضت علينا مثل فرض منزلي علينا استكماله، مرةً بعد أخرى، حتى نهايات الطريق التي لا نعرف كم ستطول في هذا الطريق الفلسطيني الطويل والأسطوري.
في هذا المسار الطويل، أصرّ الفلسطيني، المرة بعد الأخرى، على إعادة اختراع حياته التي
دمرها الآخرون من لا شيء. فمنذ النكبة، اخترع حياته من حكايات الأمهات والجدات، من طحين وكالة الغوث (أونروا) وملابسها الملونة وغير المناسبة لشيء، من جمالياتٍ ساحرةٍ لبلد تقاطعت الديانات السماوية على أرضه، وحوّله حنين المنافي إلى جنة الله على الأرض. اخترع الحياة من صوت المؤذن وجرس الكنيسة، من زهر الحنون والميرمية، من سحر زهرات البابونج الأصفر، من عصافير البلاد، من حمامٍ يطير ليعطي معنى الحياة، ويشعر طفلٌ ما بعيداً عن الجندي الاسرائيلي المدجج بالسلاح، أو غيره من الجنود المدججين، أن هناك طائراً ما زال قادراً على صنع الفرح لطفلٍ باسم يستحق الحياة، كما هي، بسيطة سهلة كما يعرفها كل الأطفال في هذا العالم. ولأنه شعبٌ أحب الحياة، كان شهداؤه يصعدون "إلى حتفهم باسمين"، لأن عطش الحياة لم يروَ عند نجومه الذين سقطوا طوال الطريق الطويل إلى الجنة/ الوطن الذي تسيجه بنادق الاحتلال.
لذلك كله، ولما يفيض من التجربة الفلسطينية، بحلوها ومرها، عن كلمات غير قادرة على التقاط المعاني العميقة للألم الإنساني ولصناعة الحياة بكل القوة الممكنة للبشر العاديين، وصناعة الطبيعي من اللاطبيعي. نحن بحاجةٍ إلى الفرح، لنعود مرة أخرى لننتبه إلى أننا بشر، وأننا نحب الحياة أكثر، وأن علينا أن نشبه أنفسنا. ولذلك، نتمسك بقوة ببشريتنا التي كدنا نفقدها في زحمة الألم.
نعم، الكم الهائل من المعاناة والألم التي شهدناها، تحتاج إلى التحطيم. لذلك، نحن أشد ما نحتاج له، هو الفرح، والذي لا يجب على المعاناة أو القسوة أو الحياة غير الطبيعية التي عشناها أن تمنعنا من الفرح وتقتله، ليس الفرح بالمعنى الساذج لممارسة الحياة، بل بالمعنى العميق للكلمة، بالمعنى الذي يُشعرنا بأننا أبناء الحياة وأننا نستحقها، على الرغم من كل الظروف التي عشناها ونعيشها، وأن الحياة التي نعيشها هي حياتنا، وكما أنها تملك هذا الكم من الطاقة الهائلة على إنتاج الظلم والقهر، كذلك يجب تحويلها إلى حياةٍ تنتج الفرح، ليس على المستوى العام فحسب، بل والفرح على المستوى الفردي. علينا استعادة صورتنا بشراً طبيعيين، من حقنا أن نفرح، ومن حقنا أن نصاب بعدوى الضحك، من دون أن يعني ذلك أننا نخون قضيتنا الوطنية. علينا أن نكفّ عن أسطرة أنفسنا، وأن نتحدث علنا عن هشاشتنا وضعفنا، كما نتحدّث على البطولة، فكل هذه الأشياء أصلا متجاورة في الحياة. علينا تعلم، كما أن الحزن لا يعيبنا، فالفرح أيضا لا يعيبنا، في كل الظروف الصعبة والسوداء التي نعيشها، فعلا نحتاج إلى القليل من الفرح، لنعرف أننا بشر أسوياء، لا أكثر ولا أقل.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.