الجغرافيا والدور الأردني ومواجهة المستقبل

19 يناير 2018
+ الخط -
تلعب الجغرافيا السياسية دوراً مهماً، بوصفها ركيزة من ركائز قياس فاعلية الدول، وبيان دورها على المستويين، الإقليمي والدولي، وفي ظل تشابك المصالح الدولية وتعقّدها، فيما يتعلق بطرق التجارة والنقل والطاقة، بات الحديث عن الطموح السياسي والتأثير مرتبطا بشكل عميق بالجيوبولتيك وتعقيداته، وهذا أمر تسعى إليه الدول الفاعلة، مثل إيران وإسرائيل وتركيا، ويمثل الطموح الصيني لاستعادة طريق الحرير نموذجا في إعادة الاعتبار لوظيفة الجغرافيا والتاريخ في خدمة الطموح السياسي.
كانت الدولة الأردنية دوماً في فم التاريخ السياسي، بوصفها منطقة فاصلة ومتوسطة لطرق التجارة، وهي دوما في بطن الجغرافيا المعقدة التي هي أحد أهم عوامل حضور الدولة الأردنية، على المستويين، الدولي والإقليمي، لتقاطعها مع أعقد ملفات الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية وتداعيات الصراع والتسويات والصفقات التي لخصت مسار هذا الإقليم طوال القرن الماضي.
تتعمق أزمة الأردن اليوم، اقتصادياً وسياسياً على المستوى الداخلي وعلاقاته الخارجية وسط تشابك الملفات الإقليمية، والدولية في منطقة الشرق الأوسط، مع فتح مسار التسويات الكبرى التي ستؤدي إلى تأسيس منظومةٍ جديدة، تزيح المنظومات والصيغ القديمة.
لا تنفي هذه الواقعية السياسية عن النظام السياسي تحمّله المسؤولية عن الأزمة الحالية، بفعل 
خياراته السياسية والاقتصادية، غير أن الجغرافيا السياسية الأردنية، بقدر ما تحمل من فرص للدولة، إلا أنها تتحول، في اللحظات الفاصلة، إلى عبء ثقيل يدفع البلاد إلى الحافة. كما أن في تاريخ الجغرافيا الأردنية محطات فاصلة، كانت عنوانا مهما لنقل المشاريع الكبرى عبر التاريخ، فالمنطقة كانت حدّاً فاصلاً بين الإمبراطوريتين، الفارسية والرومانية. وساهمت دكتاتورية الجغرافيا في تدمير أهم الممالك العربية التي كانت تتخذ من البادية السورية مستقراً لها، سواء مملكة الأنباط 106 ميلادي أو مملكة تدمر 273 ميلادي، كما كانت جغرافيا الأردن محطة فاصلة في نقل المشروع الإسلامي من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، ومن ثم إلى العالم عبر معركة اليرموك 632 ميلادي، وكانت الأرض الأردنية محطة فاصلة في مواجهة الغزو الصليبي بلاد الشام في معركة حطين 1187. وكانت عنواناً مهماً إبان سيطرة الدولة العثمانية على بلاد الشام، وهي ضمن أنظار الامبراطورية الألمانية للالتفاف على الهيمنة البريطانية على الممرات البحرية، وكانت تتطلع إلى الجغرافيا الأردنية، عبر المساعدة في مد الخط الحديدي الحجازي 1900/1908، ليصل إلى عاصمة ألمانيا برلين بموانئ عدن عبر الأراضي الأردنية التي تعدّ ممراً مهما لقوافل الحجاج تاريخياً. ولعبت تلك البقعة من الأرض دوراً مهماً ومحطة مهمة في مسار الثورة العربية الكبرى التي أدّت إلى انهيار الدولة العثمانية 1916ميلادي.
تلك أبرز المحطات التاريخية للجغرافيا الأردنية ما قبل الدولة الأردنية الحديثة، والتي جاءت نتيجة تقاسم النفوذ بين الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي صاغت شكل الدولة الأردنية الحديثة وجغرافيتها، حيث وقعت هذه الدولة وسط قوس من الدولة القوية في كل من سورية والعراق والسعودية وإسرائيل.
شكلت الجغرافيا الأردنية أهم الأوراق التي مكّنت الدولة من لعب أدوار إقليمية مهمة، على الرغم من صغر مساحتها وتواضع إمكاناتها، بل وفرضت هذه الجغرافيا على الأردنيين لعب أدوار كبرى، عبر دعم جيش يوسف العظمة وإسناده في مواجهة الانتداب الفرنسي 1922، كما وفرت هذه الجغرافيا ملاذا لثوار سورية، وخصوصا ثوار جبل العرب وفلسطين وليبيا، حيث أسس علي صالح عابدية، هو وألف مقاتل ليبي، بلدية المفرق، وهي أكبر محافظات الأردن مساحة عام 1945. وفي مواجهة الحركة الصهيونية مطلع القرن الماضي، حيث كان أول شهيد على أرض فلسطين هو المجاهد كايد مفلح العبيدات من شمال البلاد، إضافة إلى خوض الحروب العربية مع دولة الاحتلال، وتحمل أعباء هذا الاحتلال من لجوء ومخططات صهيونية تستهدف فلسطين والأردن. وكان قدر الأردن أيضاً أن يتحمل تبعات الصراع العربي على الورقة الفلسطينية، لتتحول الدولة الأردنية ساحة لهذا الصراع، خصوصا في فترة الصراع المصري السعودي على ورقة تمثيل الفلسطينيين.
وعلى الرغم من الأعباء الكبرى التي تحملها الأردن، بحكم موقعه الجغرافي، إلا أنّ هذا الموقع 
وفّرَ فرصا حقيقية للدولة الأردنية، وخصوصا في الفترات التي كانت عمّان تقع في محور المواجهة والرفض والتصدّي، لتأتي الجغرافيا الأردنية وتلعب دوراً حاسما في "جلب" الأردن إلى السلام عبر اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية 1994، وتتحول البلاد إلى عنوان مهم في إدماج إسرائيل في المنطقة، بوصفها بوابة السلام مع العرب.
كما ساهمت الجغرافيا الأردنية في تحميل الدولة موجات لجوء ونزوح طوال القرن الماضي، سواء بفعل القضية الفلسطينية، ثم احتلال العراق الكويت، ولاحقا احتلال الولايات المتحدة الأميركية العراق، وأخيرا الأزمة السورية.
واليوم يعاني الأردن من جملة من التحديات، عنوانها الرئيس ثقل الجغرافيا، حيث تقع البلاد على مفترق التصادم الإقليمي والدولي لحسم مستقبل القضية الفلسطينية، ومستقبل كل من سورية والعراق، ومستقبل إسرائيل، ومستقبل اللاعبين الإقليميين وأوزانهم، سواء السعودية ومصر وإيران وتركيا، وشكل النظام الدولي ومآلاته المستقبلية.
وتواجه البلاد أزمة معقدة من إغلاق المعابر الحدودية مع سورية، وضعف انسياب البضائع إلى العراق، وحالة تشكك في التحالف مع السعودية، وتنمر إسرائيلي على الأردن، خصوصاً ما بعد الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل.
لعل الأردن اليوم يواجه سؤالاً وجودياً، عنوانه هل فقدت الجغرافيا الأردنية أهميتها؟ خصوصا في ظل التطلع العربي إلى ضرورة مواجهة إيران ونفوذها في المنطقة على حساب القضية الفلسطينية أساساً. والأردن بكل تأكيد سيكون أمام استحقاقات تاريخية كبرى، ربما تؤدي إلى تغييرات كبرى، تطاول شكل الدولة ونظامها السياسي. ولعل مشروعية هذا السؤال تنبع من التركيز على ضرورة عقد "صفقة" يتم بموجبها، وفق منطق الواقعية السياسية، حل القضية الفلسطينية لإدماج إسرائيل في التحالف المناهض لإيران.
على الرغم من كل ما يجري الحديث عنه من صفقة القرن، برعاية عربية وأميركية، إلا أنّ الأردن، وبحكم الجغرافيا، يمتلك موقعاً مهماً ومؤثراً في مسار أي تسوية، خصوصاً في ملفات الحل النهائي "القدس والحدود والأمن والمياه واللاجئين". وبالتالي، سيكون الأردن قادراً على الدفاع عن مصالحه الحيوية، وفرضها على أرض الواقع. كما سيتأثر حتماً بمستقبل التسوية السياسية السورية، وعناوين الحل النهائي فيها، لجهة دستور الدولة، وشكل نظام الحكم فيها، ومستقبل التسوية السورية الإسرائيلية. إضافة إلى مستقبل العراق، في ظل حالة الاستقطاب التي يشهدها حالياً، بغرض الخروج من أزمته المتمثلة في علاقته بجواره العربي من جهة، والتركي والإيراني من جهة أخرى.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا