معلمو الأردن .. احتجاجات وصراع إرادات
بعد نحو عقد من ربيع عربي أردني، تتعاظم اليوم استحقاقات عجز الأطراف، الرسمية والشعبية، عن إنجاز تسوية قادرة على توظيف تلك اللحظة وتجاوزها، تاركة البلاد نهباً للقلق على مستقبلها ومصيرها.
يحتشد، بعيداً عن الإعلام المحلي في ساحات البلاد وميادينها، اليوم، مئات من المعلمين ونشطاء الحراك الشعبي، للتنديد بقرار رسمي بإغلاق نقابة المعلمين عامين وتوقيف أعضاء مجلسها، على خلفية مطالب نقابية وصفتها الحكومة رسمياً بأنها في سياق الاستقواء على الدولة وتوظيف الإسلام السياسي، في استعادة ملتبسة لفكرة ثنائية الدولة والإخوان المسلمين التي تجاوزها الزمن.
يبدو التلاحم بين نشطاء الحراك الشعبي والمعلمين استجابة للحظةٍ تأسيسيةٍ، كان الربيع العربي عنوانها، الذي دفع هؤلاء معاً إلى الشارع، للاحتجاج على تبدل أولويات النظام السياسي، لجهة التخلي عن قواعده الاجتماعية التاريخية التي كان شرط "الريع" أساساً لولائها وانتمائها إلى العرش، بعد أن باتت السياسات الليبرالية والنيوليبرالية مشروع النظام للتأسيس لقواعد جديدة للحكم.
النظام السياسي الأردني عجز عن فتح الأفق أمام الشعب الذي باتت القوى السياسية القديمة فيه من نخب الحكم والمعارضة خارج دائرة الفعالية
فشل النظام السياسي خلال العقد الأول من الألفية الحالية في دفع مشروعه إلى الأمام بفعل عجز النخب البديلة عن إنجاز عملية التطوير والتحديث الموعودة، وتمنّع النخب القديمة عن الإنجرار خلف المشروع الجديد، لينتقل الصراع من الخفاء إلى العلن، عبر وسائل الإعلام، التي عكست في حينها جذور هذا الصراع، وغذّت جذوته.
وكان العقد الثاني من الألفية الثانية ميداناً لتفاقم هذا الصراع، مع إسهام الربيع العربي في إدخال الفئات الاجتماعية المتضرّرة من تلك السياسات إلى دائرة الفعل، تحت عناوين حراك شعبي انتهى من دون تمكّن تلك القوى من فرض إرادتها باستثناء نقابة المعلمين التي كانت ثمرة وحيدة يمكن القول إنها نتجت من تلك المغالبة، بينما كانت باقي التشريعات والمؤسسات الناتجة من تنازل النظام مؤقتة، في سياق مشروع النظام، وتحت إشرافه المباشر.
مرّت النقابة، منذُ لحظتها التأسيسية الأولى عام 2012، بعملية صراعية كبرى، كان اللاعبون الكبار هم الطرف المهيمن، حيثُ تناوب على قيادتها، في ثلاث جولات، الإخوان والنظام السياسي، لتأتي لحظة عام 2019، التي تمكّن فيها الطرف "الحراكي" من تحقيق اختراق تاريخي، تمكّن عبره من الإمساك بقيادة النقابة بشراكة هامشية من الإخوان المسلمين، تسعة أعضاء من مجلس النقابة حراكيون، وثلاثة للإخوان يتقدمهم نائب النقيب، ناصر النواصرة. وقد جاءت وفاة النقيب الحراكي، أحمد الحجايا، قبيل مباشرة النقابة برنامجها المُعلَن حول علاوة المعلمين، دافعاً أساسياً لتصليب الجسم النقابي، بينما ساهم التعنت الحكومي في دفع المعلمين إلى الانخراط في الفعل النقابي والاحتجاجي، وانتهت تلك العملية بتسجيل انتصار للمعلمين، انتزعوا فيه جميع مطالبهم بعد شهر من إضراب تاريخي.
ساهم التعنت الحكومي في دفع المعلمين إلى الانخراط في الفعل النقابي والاحتجاجي، وانتهت العملية بانتصار للمعلمين، انتزعوا فيه مطالبهم بعد شهر من إضراب تاريخي
اليوم يذهب النظام السياسي إلى عملية كسر للنقابة التي باتت تشكل نقطة استقطاب لمجمل الأطراف الشعبية في البلاد، حيثُ توفر النقابة فرصةً للحراك الشعبي المُبعثر على أسس جهوية ومناطقية، ويسهم اندفاع المعلمين في طرح الأسئلة العميقة والمُعلقة عن شرعية النظام السياسي برمته، وشرعية تمثيل الأردنيين، عبر طرح تساؤل مضمونه "حكومة غير منتخبة تحل نقابة منتخبة"، إضافة إلى أسئلة عديدة تدور حول الانتخابات النيابية وجدواها، ودور مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات واعلام.
في تلك المعركة المفتوحة، يمكن القول إن الأردن أمام صراع إرادات حقيقي، ففي لحظة إعلان النظام السياسي إرادته بحل النقابة وإجراء الانتخابات النيابية مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تذهب إرادة المعلمين ومناصريهم إلى ربط عودة النقابة بمصير هذه الانتخابات على مستوى إشراف المعلمين على إجرائها، أو على صعيد المشاركة في الانتخاب والترشّح.
اليوم يذهب النظام إلى عملية كسر للنقابة التي باتت تشكل نقطة استقطاب لمجمل الأطراف الشعبية في البلاد
ويمكن القول إن النظام السياسي الأردني عجز، طوال العقد الماضي، عن فتح الأفق أمام الشعب الأردني، الذي باتت القوى السياسية القديمة فيه من نخب الحكم والمعارضة خارج دائرة الفعالية، بينما بقيت الحراكات الشعبية والاحتجاجية محرومةً التعبير عن نفسها عبر القنوات الدستورية في مؤسسات المجتمع المدني والنقابات.
وعليه، تأتي أزمة المعلمين على عتبة أبواب الفاتح من العقد المقبل الذي ستدفع التحولات العميقة على المستويات، الدولي والإقليمي والمحلي، إلى إعادة صياغة شكل الأردن ومستقبل الأردن دولةً ونظاماً سياسياً.