11 سبتمبر 2024
الجزائر.. أزمة برلمان أم سلطة؟
في تطور خطير للأزمة التي يعرفها البرلمان الجزائري، أقدم مجموعة من النواب المطالبين برحيل رئيس المجلس، السعيد بوحجة، على تنظيم وقفة احتجاجية أمام الباب الرئيسي للهيئة التشريعية، وأغلقوه بالسلاسل وبالأغلال، في عملية تبدو أقرب إلى تصرفات رجال شارع منها إلى رجال تشريع. ليس في الذاكرة ما يشير إلى حدوث مثل هذا الأمر في الجزائر منذ استقلالها قبل 57 عاما، فقد كانت المشكلات بين أعضاء السلطة تتم بعيدا عن أعين الناس والصحافة، وكان أصحاب الحل والربط يقرّرون في الخفاء ماذا يريدون، ويخرجون للناس باتفاق وقرارات بشأن توزيع غنائم المجالس المنتخبة أو السلطات التنفيذية في الوزارات والمحافظات، أو في إدارات القرار الأخرى، بحيث يظهرون للناس على أمر واحد جامع منسجم. لا يعني هذا ألبتة أن لا خلافات كانت بين السلطات المختلفة، لكنه مبدأ التحفظ الذي كان الجميع يعملون على رعايته، ففيه هيبة لمؤسسات الدولة، وتستر على خلافاتها وحل لمشكلاتها بالتي هي أفيد للجميع.
مرت أسابيع عجفاء تبادل فيها رئيس البرلمان وخصومه من فريق الموالاة الاتهامات المختلفة، فقد أصبح الرجل لديهم ندّا مستبدا، وكيلت له الإنذارات كيلا. وهو الذي كان، إلى وقت قريب جدا، واحدا منهم، بل وقيدوهم في النضال داخل صفوف حزب الأغلبية، جبهة التحرير الوطني. اكتفى الرجل بالتشبث بمنصبه، متكئا في ذلك على نصوص قانونية ودستورية تعزّز موقفه، إذ لا توجد فيها كلمة واحدة تنص على سحب الثقة من رئيس البرلمان، (ليس هناك في الدستور، أو النظام الداخلي للمجلس، ما يجبر بوحجة على تقديم استقالته)، وهو ما فسّره خبراء القانون الدستوري بوجود فراغ قانوني، أو صمت قانوني كانت وراءه أهداف مرجوّة في فترات سابقة من حكم الحزب الواحد، لكنه تحول اليوم مع التعدّدية الحزبية إلى إعاقةٍ في وجه من يريدون سحب الثقة من رئيس المجلس الشعبي الوطني.
وصلت القبضة الحديدية بين السعيد بوحجة ونواب الموالاة إلى مرحلة التعفن، فبعد إحالة رئيس
البرلمان على لجنة الانضباط داخل حزب جبهة التحرير الوطني، رُفع عنه الغطاء السياسي. لم يفهم المواطن الجزائري ما يدور في أروقة البرلمان، بل ولم يستطع النواب أنفسهم إفهام الناس ما يجري، ولم تستطع كل البرامج الحوارية التلفزيونية الإجابة عن السبب الحقيقي لتمترس الموالاة من جبهة التحرير والتجمع الوطني الديموقراطي، رفقة أحزاب صغيرة أخرى، ضد رئيس البرلمان. نأت أحزاب المعارضة الأخرى بنفسها عن الأزمة، واعتبرت ما يحدث تحت قبة البرلمان حريقا داخل بيت الموالاة لا شأن لها به، فتحوّل الأمر إلى صورة سوريالية في مسرحية سمجة، وكأن الأمر يعني برلمان بلاد الواق واق.
تعجز الموالاة عن تقديم سبب واحد وجيه لمعاداة السعيد بوحجة. التفسير الوحيد الذي تردّده ألسن الناس أن ما يحدث هو بمثابة جبل الجليد لصراع داخل أجهزة السلطة، وهو ما يشي به حديث رئيس البرلمان نفسه عن أن قبوله الاستقالة مرهونٌ فقط بتلقي مكالمة هاتفية من عل، ويقصد بذلك رئيس الجمهورية. وليس مستغربا أمر المكالمات الرأسية في الممارسة السياسية الجزائرية، فأجهزة الدولة تسير بمهماز فوقي، ولا يختلف في ذلك البرلمان عن الإدارات أو الأجهزة التنفيذية.
في محكمة عسكرية غير بعيدة عن العاصمة الجزائرية، أُودع خمسة جنرالات من بينهم ثلاثة من قادة النواحي العسكرية السابقين، السجن، بعد أن أحيلوا على التقاعد قبل أسابيع. فاجأ قرار التقاعد المتتبعين، فسالت أنهار وسائل التواصل الاجتماعي أسئلةً عن سبب القرار الجماعي الذي لم يحدث له مثيل في تاريخ مؤسسة الجيش الجزائرية، يومها صدرت تفسيراتٌ قريبة من وزارة الدفاع، مفادها بأن الأمر عادي جدا، فحركة التغييرات التي شهدتها المؤسسة العسكرية أُدرجت ضمن مبدأ التداول على الوظائف، وأن هؤلاء الجنرالات قد بلغوا سن التقاعد، ليخلفهم ضباط آخرون من فئات عمرية أقل.
لم تصمد هذه التبريرات طويلا، إذ سرعان ما قفز إلى العناوين الأولى خبر محاكمتهم بتهم فساد وخرق للقانون العسكري في أثناء مزاولتهم مهامهم، وما زالت التحقيقات جارية، ومن المتوقع أن تستدعي النيابة العسكرية شهودا ومتهمين مدنيين في القضايا قيد التحقيق، وهو ما سيوسع عدد المتهمين على الأرجح.
صحيح أن الجزائر عرفت محاكمات فساد عديدة كفضيحة الطريق السيار، ومؤسستي الخليفة
ومؤسسة النفط "سوناطراك"، إلا أن اتهام ضباط رفيعين بهذا المستوى بدا مستغربا، وسابقة خطيرة في تاريخ الجيش الجزائري الذي مازال المواطنون يعتبرونه خطا أحمر لا يمكن خرقه.
يعتبر كثيرون التغطية الإعلامية لهذه القضايا تشهيرا بمحاكمة قادة الجيش بشكلٍ أعطى الانطباع بأن "القضية سياسية". وكان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد أجرى تغييراتٍ شملت عددا من كبار ألوية الجيش والدرك والشرطة والمخابرات، أثارت جدلا واسعا، وطرحت تساؤلات كثيرة في الأوساط السياسية والإعلامية، خصوصا في تزامنها قبيل موعد الانتخابات الرئاسية المقرّرة في أبريل/ نيسان 2019. ولا يحيل الغموض الذي يكتنف هذه المحاكمات وأسبابها ودواعيها إلى الجزم بأي سيناريو، لكنه يعيد طرح الأسئلة نفسها، ماذا يجري في كواليس السلطة في الجزائر، ومن يقود سفينة الدولة، وإلى أين؟ هل يمثل هؤلاء الضباط أنفسهم كأفراد؟ وهل كان السعيد بوحجة باستطاعته التمسك برئاسة البرلمان، لو لم تكن وراءه قوة تحصّن ظهره، وتدفعه إلى مقاومة أصدقاء الأمس خصوم اليوم، ولماذا تسلك مؤسسات الدولة مسلك التعتيم والغموض في قضايا مصيرية، تهم أمن الوطن ومصائر الناس. الثابت في هذا كله أن هناك أزمة حقيقية في عضد السلطة، لن ينجلي غبارها إلا بعد موعد أبريل/ نيسان المقبل.
مرت أسابيع عجفاء تبادل فيها رئيس البرلمان وخصومه من فريق الموالاة الاتهامات المختلفة، فقد أصبح الرجل لديهم ندّا مستبدا، وكيلت له الإنذارات كيلا. وهو الذي كان، إلى وقت قريب جدا، واحدا منهم، بل وقيدوهم في النضال داخل صفوف حزب الأغلبية، جبهة التحرير الوطني. اكتفى الرجل بالتشبث بمنصبه، متكئا في ذلك على نصوص قانونية ودستورية تعزّز موقفه، إذ لا توجد فيها كلمة واحدة تنص على سحب الثقة من رئيس البرلمان، (ليس هناك في الدستور، أو النظام الداخلي للمجلس، ما يجبر بوحجة على تقديم استقالته)، وهو ما فسّره خبراء القانون الدستوري بوجود فراغ قانوني، أو صمت قانوني كانت وراءه أهداف مرجوّة في فترات سابقة من حكم الحزب الواحد، لكنه تحول اليوم مع التعدّدية الحزبية إلى إعاقةٍ في وجه من يريدون سحب الثقة من رئيس المجلس الشعبي الوطني.
وصلت القبضة الحديدية بين السعيد بوحجة ونواب الموالاة إلى مرحلة التعفن، فبعد إحالة رئيس
تعجز الموالاة عن تقديم سبب واحد وجيه لمعاداة السعيد بوحجة. التفسير الوحيد الذي تردّده ألسن الناس أن ما يحدث هو بمثابة جبل الجليد لصراع داخل أجهزة السلطة، وهو ما يشي به حديث رئيس البرلمان نفسه عن أن قبوله الاستقالة مرهونٌ فقط بتلقي مكالمة هاتفية من عل، ويقصد بذلك رئيس الجمهورية. وليس مستغربا أمر المكالمات الرأسية في الممارسة السياسية الجزائرية، فأجهزة الدولة تسير بمهماز فوقي، ولا يختلف في ذلك البرلمان عن الإدارات أو الأجهزة التنفيذية.
في محكمة عسكرية غير بعيدة عن العاصمة الجزائرية، أُودع خمسة جنرالات من بينهم ثلاثة من قادة النواحي العسكرية السابقين، السجن، بعد أن أحيلوا على التقاعد قبل أسابيع. فاجأ قرار التقاعد المتتبعين، فسالت أنهار وسائل التواصل الاجتماعي أسئلةً عن سبب القرار الجماعي الذي لم يحدث له مثيل في تاريخ مؤسسة الجيش الجزائرية، يومها صدرت تفسيراتٌ قريبة من وزارة الدفاع، مفادها بأن الأمر عادي جدا، فحركة التغييرات التي شهدتها المؤسسة العسكرية أُدرجت ضمن مبدأ التداول على الوظائف، وأن هؤلاء الجنرالات قد بلغوا سن التقاعد، ليخلفهم ضباط آخرون من فئات عمرية أقل.
لم تصمد هذه التبريرات طويلا، إذ سرعان ما قفز إلى العناوين الأولى خبر محاكمتهم بتهم فساد وخرق للقانون العسكري في أثناء مزاولتهم مهامهم، وما زالت التحقيقات جارية، ومن المتوقع أن تستدعي النيابة العسكرية شهودا ومتهمين مدنيين في القضايا قيد التحقيق، وهو ما سيوسع عدد المتهمين على الأرجح.
صحيح أن الجزائر عرفت محاكمات فساد عديدة كفضيحة الطريق السيار، ومؤسستي الخليفة
يعتبر كثيرون التغطية الإعلامية لهذه القضايا تشهيرا بمحاكمة قادة الجيش بشكلٍ أعطى الانطباع بأن "القضية سياسية". وكان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد أجرى تغييراتٍ شملت عددا من كبار ألوية الجيش والدرك والشرطة والمخابرات، أثارت جدلا واسعا، وطرحت تساؤلات كثيرة في الأوساط السياسية والإعلامية، خصوصا في تزامنها قبيل موعد الانتخابات الرئاسية المقرّرة في أبريل/ نيسان 2019. ولا يحيل الغموض الذي يكتنف هذه المحاكمات وأسبابها ودواعيها إلى الجزم بأي سيناريو، لكنه يعيد طرح الأسئلة نفسها، ماذا يجري في كواليس السلطة في الجزائر، ومن يقود سفينة الدولة، وإلى أين؟ هل يمثل هؤلاء الضباط أنفسهم كأفراد؟ وهل كان السعيد بوحجة باستطاعته التمسك برئاسة البرلمان، لو لم تكن وراءه قوة تحصّن ظهره، وتدفعه إلى مقاومة أصدقاء الأمس خصوم اليوم، ولماذا تسلك مؤسسات الدولة مسلك التعتيم والغموض في قضايا مصيرية، تهم أمن الوطن ومصائر الناس. الثابت في هذا كله أن هناك أزمة حقيقية في عضد السلطة، لن ينجلي غبارها إلا بعد موعد أبريل/ نيسان المقبل.