الجراد والترويع وعرسال وحزب الله
"الآتي أصعب... وكفى قولًا إنّ تدخّل حزب الله في سورية هو من استحضر داعش إلى لبنان". بهذه الصرخة الحازمة، أنهى وليد جنبلاط مؤتمره الصحافي الذي رافق العمليات العسكرية للجيش اللبناني في عرسال. أداء جنبلاط كان "سوبر درزيًّا". أطلّ علينا من بين ثنايا التوافق الأميركي-الإيراني على "مكافحة الإرهاب" في بلدة عرسال اللبنانية الحدودية مع سورية، وقد رأى أن واجبه "التاريخي" يتمثّل بحماية الدروز والجبل، بينما الكلمات الأخرى التي وردت، مثل الوطن ولبنان والدولة، لم تعد كونها الزينة الضرورية لتسويق أيّ بضاعةٍ، أمام جماهير "الطائفة" المشدوهة بالأداء أمامها. هذا النوع من التشقلب في السياسة أمر معتاد في لبنان، ويقع في مكان ما بين هواجس الرعب الدائم من "الآخر" الطائفي ووشوشات السفارات الاستعماريّة في المنطقة. لكنّ المسألة المثيرة للاهتمام حقًا تكمن في محاولة الإجابة الجدية عن السؤال الذي أزعج جنبلاط: هل تدخل حزب الله العسكري في سورية وراء مجيء داعش إلى لبنان أم لا؟
إنّ قسماً ممن يعارضون تدخل حزب الله العسكري في سورية يردّون بالإيجاب على ذلك، لكنهم لا يأخذون في حساباتهم أنّ "دولة العراق الإسلامية" إذا ما تمددت أكثر، قد يكون لها، يومًا، أجندات تضمّ لبنان في "الخلافة" كما ضمّت أجزاء من سورية والعراق، علما أنّ ذلك يبقى، حتى اليوم، احتمالًا غير ماثلٍ بشكل جدّي. أما من يدعم حزب الله فهو من المقلب الآخر يبشرنا، وبالدليل القاطع، أنّ "ما يحصل في عرسال" يؤكد "صحّة ما قام به حزب الله منذ البداية". لا بل لا يكتفي بذلك، وأصبح، أخيراً، يطلب من الباقين شكر مقاتلي الحزب المذكور، لأنهم يدافعون عن "الوطن" في ظلّ "تقاعس" من تبقى!
التماثل بين طرفي المعادلة المطروحة، حزب الله وداعش، يكمن في ملاحظة أنّ التنظيمين المذكورين يعملان بأولويات فكرية وعسكرية، عابرة لحدود الدولة القُطرية. كلمة "حدود" لا تعنيهما في شيء. "إقامة الخلافة" مشروع كافٍ للبغدادي ليمحو أيّ حدود بين سورية والعراق. أمّا التبريرات الأيدولوجية التي تساق من أجل إرسال مقاتلي حزب الله إلى بغداد وحلب والقصير، فكانت، دومًا، الحرب على "تكفيريين" و"حماية المراقد الشيعية". إذن، لا مفاضلة بين الطرفين في هذا الخصوص. وبهذا المعنى، إنّ ما سماه جنبلاط بتعبير مجازي "قدوم الجراد"، قد يستعمله فرد من عشيرة الشعيطات في دير الزور يقاتل داعش، أو ثائر قاتل يومًا حزب الله في القصير بشكل متوازٍ. لكن، الفرق الجوهري بين الاثنين هو أن "دولة العراق الإسلامية" تصبح شيئاً فشيئا "ذات" وتبحث بجديّة سبل إقامة دولتها، أمّا حزب الله فيبقى جزءاً وأداة من مشروع هيمنة إمبراطورية إيرانية في الوطن العربي، بالمعنى الجيوسياسي، الواسع للكلمة.
ولتقديم إجابة دقيقة، يجب أن نتذكّر، قبل كل شيء، أنّ تدخل حزب الله والميليشيات العراقية، تحت إمرة إيرانية، أتى لحماية النظام السوري من الانهيار المحقق في منتصف عام 2012. وسمح هذا التحوّل المفصلي بقلب الموازين جذريًّا، فتصارع طرفان، هما النظام المدعوم وحلفاؤه من جهة والجيش الحرّ من جهة أخرى، مما أدى الى إنهاك الأخير بشكل كبير. حينها بدأ داعش يتمدّد على حساب المناطق التي كان قد سيطر فيها الثوار السوريون طوال السنتين الماضيتين، إلى أن انتهى بوجود لاعبين عسكريين مركزيّين في سورية، داعش في المنطقة الشرقية الشمالية وقوات الأسد في الوسط والغرب. وبهذا المعنى، من الدقيق والموضوعي الزعم أنّ تدخلّ حزب الله والميليشيات العراقية هو الذي أدّى إلى تسهيل إطلاق ديناميّة تمدّد "دولة العراق الإسلامية" التي بدأت، الآن، في بسط سيطرتها على مناطق يسيطر فيها النظام السوري.
إذاً، وعلى الرغم مما قاله جنبلاط، فإنّ تدخل حزب الله في سورية، يجب أن يفهم على أنّه جزء من "الاستراتيجية الدفاعية" للأمن القومي الإيراني التي فرضتها الثورة السورية، وليس حتماً بأنّه استجلاب مقصود لداعش إلى لبنان مثلاً، بل كان ذلك نتيجة مآل طويل ومعقّد، ولكن حاسم أيضًا للأمور، انتهى بجعل داعش تهديدًا حقيقيًّا لكلّ بقيّة أطراف الصراع الدائر.
لكن، كيف نربط ذلك بالذي يحصل في جرود القلمون وعرسال؟ تقول المعلومات الصحافية الأكثر مدعاة للثقة والمنشورة إنّ المقاتلين في القلمون هم خليط من أقليّة تنتمي إلى داعش وأكثرية من جبهة النصرة متحالفتين، وجماعات أخرى متفرّقة من الجيش الحرّ في القلمون، انسحبت جميعها إلى الجرود، بعد استعادة قوات الأسد وحزب الله كل الأراضي المحيطة بجرود القلمون. لذا، فإنّ إطلاق تسمية داعش على مجموع المقاتلين في جرود القلمون مضللة في أحسن الأحوال.
ذلك يعني، أيضًا، أنّ التضخيم المقصود لتعبير داعش واحتلال الأخير فضاء الإعلام اللبناني، والذي انضوى بأسره في "حرب على الإرهاب"، وأبلس عرسال وسكانها ونازحيها، أدى في المحصّلة إلى انفلات أسوأ أنواع الممارسات الفكرية واللفظية العنصرية بحقّ العراسلة واللاجئين السوريين، كالصحافية اللبنانية التي كتبت أنّ "على كلّ لبناني أن يقتل كلّ سوري يصادفه"! وهدف ذلك كله كان إيقاف أيّ اعتراض على الإرادات التي قرّرت مسار الأمور. فجأة، أصبح كلّ شيء "داعشيًّا"، مما أرعب العباد المتسمّرة على التلفاز، وأسكت كلّ شكّاك ومعترض، معيدًا إلى الأذهان تقنية "الصدم والترويع" التي اعتمدتها القوات الإمبرياليّة الأميركيّة في غزو العراق عام 2003.
فمن أشنع ما حصل في الإعلام اللبناني تمثّل في حصر استعمال تعبير "شهداء" عند ذكر الجيش اللبناني، وعدم ذكر أيّ شيء في المقابل، أو القليل جدًا، عن مصير 35 ألف عرساليٍّ و140 ألف نازح في أثناء العمليات العسكرية. ربما كان هؤلاء، بحسب بعضهم، مجرّد "خسائر جانبيّة" يجب تقبلها، إلا إذا كنت عرساليًّا، أو نازحًا سوريًّا، عالقًا تحت النيران فلك الخيار. حينها ألّا تتقبّل ذلك على مسؤوليتك. الأدهى من ذلك كله استغلال إعلام حزب الله الحربي ما حصل لكسب شرائح جديدة من اللبنانيين، كانت متأرجحة في موقفها منه، وخصوصاً من المسيحيين، وذلك بسبب تفوّق قنوات وسائل إعلامية تابعة للأحزاب المسيحيّة على نفسها، في الزعم إنّ "بقاء مسيحيي لبنان مرتبط بمعركة عرسال ضد الإرهاب"! لقد أدى ذلك من حزب الله إلى إعادة تنشيط التعبئة النفسيّة، من أجل استمراره في "الحرب العادلة" لدعم نوري المالكي ومجرميه إلى ما لا نهاية، بينما لا يزال لبنانيون كثيرون يظنّون أنّ حزب الله لا يقاتل سوى داعش في العراق وسورية. ولكم أن تسألوا العراقيين عن عدل ميليشيات المالكي واحترامهم الطوائف الأخرى.
ملاحظة: بالتزامن مع ذلك كله، يبدو أن الطبقة الحاكمة اللبنانية قرّرت في سياق حربٍ لا تنتهي على الإرهاب، أن تطوّع 12 ألف جندي جديد بجرّة قلم، بينما هي لا تزال ترفض حتى اللحظة إقرار"سلسلة الرتب والرواتب" وحقوق الموظفين اللبنانيين التي تشمل العسكريين، وذلك بالحماس نفسه التي تبثّ شاشاتها الأغاني الوطنية، المجانيّة... "دعمًا للجيش".