الثورة السوريّة 2014: صراع ضد الأسد والخليفة
شهدت سورية في عام 2014 أحداثاً جساماً على الأصعدة السياسيّة والعسكريّة والإنسانيّة كافة، من دون أن تكسر الجمود، وتنهي الاستعصاء القائم لجهة استمرار الحرب، وعجز أيّ من طرفي الصراع عن حسم المعركة لصالحه.
بدأ هذا العام بعنوانين بارزين، مرتبطين ومتشابكين، أولهما عسكريّ، تمثل بالمواجهة الكبرى في 3 يناير/ كانون الثاني، بين فصائل المعارضة المسلحة وتنظيم الدولة الإسلامية، (داعش)، إثر تجهّز الأخير لاقتحام مدينة الأتارب ومعبر باب الهوى، شريان الإمداد الرئيس لقوات المعارضة في الشمال. ما ميّز المواجهة هو اشتراك غالبية الفصائل فيها، ونجاحها في دحر التنظيم من مناطق عدة، وعزله في جزر جغرافية غير مترابطة (الرقة وريف حلب الشرقي).
وبمقدار ما عكست هذه المواجهة رغبة الكتائب مجتمعة في دحر داعش، وإنهاء انتهاكاته، فإنها عبّرت عن رغبة وتوجه عربي وإقليمي بهزيمة التنظيم، وإنهاء أو تقليص نفوذه في سورية قبل عقد مؤتمر جنيف 2، لقطع الطريق أمام محاولات النظام وحلفائه استثمار تمدد التنظيم، لحرف المؤتمر عن هدفه الرئيس. أما العنوان الثاني فكان سياسياً بامتياز؛ إذ نجحت القوى الدولية الراعية في الضغط على طرفي الصراع، وحثهم على التفاوض المباشر لأول مرة. وعقد جنيف 2 على جولتين تفاوضيتين بين 22 يناير و14 فبراير/ شباط، من دون تحقيق أي اختراق. فشل جنيف 2 في تحقيق أهدافه إطلاق عملية سياسية بين السوريين، تفضي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات، لكن الأطراف الراعية لم ترغب بإعلان فشله، لعدم وجود سياسات بديلة.
حاول النظام الاستفادة من الواقع السابق ما أمكن، لتعزيز موقعه العسكري الميداني، وتحقيق مسعاه بعزل المعارضة المسلحة في الأرياف، وإبعادها عن المدن، والمراكز الحيوية والطرق الدولية. على هذا الأساس، وحرصاً على تأمين التواصل الجغرافي بين دمشق والمنطقة الوسطى والساحل، كانت معركة يبرود ومحيطها خاتمة جولاته في القلمون. كما أطبق الحصار على الغوطة الشرقية بعد سقوط المليحة (14 أغسطس/ آب 2014).
من جهة أخرى، حقق شعار "الجوع أو الركوع"، الذي تبناه النظام في حصار مناطق حيوية تسيطر عليها المعارضة، أهدافه بإنتاج هدن ومصالحات، كما جرى في مخيم اليرموك وببيلا والحجر الأسود والمعضمية، والقدم والعسالي، وفي حمص القديمة، بعد اتفاق رعته إيران بين الجبهة الإسلامية والنظام، تمخص عنه خروج المقاتلين المحاصرين (700 يوم حصار)، بأسلحتهم الفردية، وتسليم المدينة للنظام (7 مايو/ أيار).
في ظل المعطيات السابقة، جرت الانتخابات الرئاسية (3 يونيو/ حزيران). وكمثيلاتها في النظم الاستبدادية، فاز الأسد بعد حصوله على نحو 90% من الأصوات. لم تغيّر نتائج الانتخابات في المواقف الدولية، لكنها قضت على ما تبقى من فرص للحل السياسي، ودفعت المبعوث الدولي، الأخضر الابراهيمي، إلى الاستقالة (31 مايو)، ليخلفه ستيفان دي مستورا (11 يوليو/ تموز). أما المعارضة السوريّة، فقد واجه شقها العسكري، في النصف الأول من عام 2014، سلسلة انتكاسات عسكرية، ولم تكسب إلا جولات معدودة في خان شيخون ودرعا، وفي بعض أحياء مدينة حلب الغربية. وتحول الائتلاف الوطني إلى عبء على الثورة، بسبب خلافاته المستمرة وصراعات القوى داخله، ابتداءً من قرار رئيسه السابق، أحمد الجربا، حضور جنيف 2 من دون تحقيق إجماع داخلي، ما أدى إلى انسحاب 40 عضواً، ثم عودتهم، لاحقاً، بعد تسويات انتخابية بين الجربا ومصطفى الصباغ، تمخص عنها انتخاب هادي البحرة (9 يونيو/ حزيران) رئيساً للائتلاف، وصولاً إلى حل هيئة الأركان وتعيين هيئة بديلة، وانتهاءً بأزمة الصلاحيات بين الحكومة والائتلاف، وما نتج عنها من سحب الثقة من حكومة أحمد طعمة، وإجراء انتخابات جديدة، فاز فيها طعمة نفسه (15 أكتوبر/ تشرين الأول).
كان تجحيم نفوذ داعش وعزله ضمن مدينة الرقة وريف حلب الشرقيّ، أبرز إنجازات المعارضة المسلحة في النصف الأول من عام 2014. آنذاك، رجحت مؤشرات عدة انهيار التنظيم في سورية، أو افتقاده مقومات البقاء على المدى الطويل. لكن أسباباً عدة داخلية: اختلاف حسابات الفصائل وتوجهاتها، غياب الدعم الدولي، انشغال المعارضة بقتال النظام، وخارجية: انتفاضة العشائر المسلحة في العراق، وسقوط الموصل (10 يونيو)، قلبت التوقعات رأساً على عقب. فقد وظّف داعش الزخم العسكريّ والمعنوي الذي تحصّل عليه عراقياً في معركته داخل سورية، فحاصر دير الزور وأريافها، وسيطر (15 يوليو) على معظم مساحتها، بعد طرد الفصائل المنضوية في مجلس شورى المجاهدين، وأمّن، للمرة الأولى، تواصلاً جغرافياً بين مناطق سيطرته في كل من العراق وسورية، فأزال الحدود، وأعلن الناطق باسمه، أبو محمد العدناني (29 يوليو)، عن إقامة الخلافة الإسلامية، وتعيين أبو بكر البغددي خليفة للمسلمين.
غير أن صعود تنظيم الدولة وتوسّع نفوذه، بدّل حسابات الولايات المتحدة واستراتيجيتها، واضطرّها للعودة للتدخل العسكري، بعد تشكيل تحالف ضم دولاً عربية وغربية (مؤتمر باريس) لمحاربة تنظيم الدولة وحرمانه من الملاذ الآمن في سورية. لكن غارات التحالف في سورية (بدأت في 23 سبتمبر)، لم تستهدف داعش فحسب، بل قصفت مواقع لجبهة النصرة، وحركة أحرار الشام، وجبهة أنصار الدين، ما أثار تساؤلات عدة عن خطط التحالف وأهدافه والطرف المستفيد.
وعلى الرغم من أثرها البليغ، لم تنجح غارات التحالف، وبعد ثلاثة أشهر، في الحد من توسّع تنظيم الدولة في العراق وسورية، وحقق التنظيم اختراقات مهمة أمام قوات المعارضة السورية، في ريف حلب الشمالي والغربي، وأمام ميليشيات وحدات الحماية الكردية في عين العرب (كوباني)، وأمام قوات النظام بسيطرته على الفرقة 17 (25 يوليو)، واللواء 93 في الرقة (8 أغسطس)، ومطار الطبقة (27 أغسطس)، وصولاً إلى حصاره مطار دير الزور، مطلع ديسمبر.
خلال عام 2014 وقعت الثورة السورية ضحية بين فكي كماشة؛ النظام وداعش، وكشف عن لامبالاة دوليّة بأسوا كارثة إنسانية يشهدها القرن الواحد والعشرون، ترجمت سياسياً من خلال مبادرة المبعوث الدولي الجديد، دي مستورا، وطروحاته عن "تجميد القتال"، و"تخفيض مستوى العنف". لكن ثوار سورية لم يركنوا أو يستسلموا للواقع المر، ونجحوا، لا سيما في الربع الأخير من عام 2014، في تحقيق انتصارات عسكريّة مهمة ومتتالية في المنطقة الجنوبية (سجن غرز، صوامع الحبوب، حواجز اللواء 112، تل الحارة، تل أحمر، تل الجابية، الشيخ مسكين، ..إلخ). وفي ريف إدلب، كان جديدها السيطرة على معسكري وادي الضيف والحامدية بشكل عوّض قوات المعارضة خسارة بلدة مورك الاستراتيجيّة. يبقى أن العام شهد، إلى جانب صعود داعش، توسع نفوذ جبهة النصرة، لا سيما بعد المواجهة الأخيرة مع جبهة ثوار سورية في ريف إدلب.