01 نوفمبر 2024
الثورات والشباب والمؤشر العربي
مرة أخرى، يطرح موضوع الشباب نفسه على مائدة الحوار والنقاش، ذلك أنه حينما قامت الثورات العربية، وأطلق عليها بعضهم أنها ثورات للشباب، خرج كثيرون ينتقدون ذلك، مؤكدين أن هذه الثورات لا يمكن بحال إسنادها إلى الشباب فقط. وعلى الرغم مما يستند إليه هؤلاء من بعض الحقيقة في تقييمهم، فإن بعضا منهم قد أراد بمثل هذا الكلام أن ينكروا أن للشباب دورا فاعلا في هذه الثورات، واقترح آخرون، في كل ثورةٍ، جملة عوامل مختلفة، جعلت الشباب في مؤخرتها، وتبدو تلك النخبة ـ التي تسمي نفسها كذلك، وقد ابيض شعر بعضهم، وتقدّمت سنهم، وطال عمرهم، قد يقفون موقفا سلبيا من هذه الخيارات التي تشكل معنى الجيل في هذا المقام، وربما هناك من يتطرّق إلى الأفكار التي توجد في كتابات علوم الاجتماع أو النفس، فيتحدثون، بشكل أو بآخر، عن ظاهرة صراع الأجيال، وبدا الأمر كأنه داخل في دائرة الاستقطاب حول الشباب ودورهم، وحول الجيل ووزنه، وحول هؤلاء وتأثيرهم في قضايا تتعلق بالثورة والتغيير والتأثير.
ومن ثم قفزت إلى مشاهد الثورة من نخب قديمة، أرادت أن تتصدر المشهد، وتتقدّم الصفوف، اعتاد هؤلاء من مثقفين وسياسيين أن ينتظروا التغيير، فإذا حان وقته، وكان الشباب أداته، قفزوا إلى المقدمة يعلنون أنهم مع التغيير ومع الثورة، وبدا هؤلاء، مع شهرتهم، يحرصون على التصدّر بمشاهد القرار، فيما يتعلق بالثورة والثوار.
ومن العجيب حقا أن نرى، مثلا، في الثورة المصرية التي حمل شرارتها من شباب مصر، واستطاعوا أن يعلنوا صيحتهم في ميدان التحرير والميادين الأخرى، وصدعوا بالآمال
والأهداف، وأكدوا على ضرورة التغيير الجذري. وهنا نجد أن من قفز إلى سدة الحكم شكل فئة عمرية كبيرة، وصار اختيار الوزراء، إلا ما ندر، من ذوي السن الكبيرة والشعر الأبيض. وبدا كل شيء يدار من "نخبة العواجيز"، حتى هؤلاء الذين تقدّموا للتفاوض، أو النصح، وتزيوا بزي الحكمة والرشد، كانوا أيضا من ذوي الشعر الأبيض، أكثر من ذلك أن من أسند إليه الحوار حول المستقبل، باعتبارها أشكالاً أفرزتها الثورة، أدت بهؤلاء الذين يسيرون الأمور أن يلجأوا إلى أدوات عدة، فكان من أدار الحوار حول المستقبل مثلا رئيسا للوزراء في مصر منذ فترات مضت، وتعدت سنه الثمانين، حتى أنه كان على أعتاب التسعين.
وحينما أراد هؤلاء أن يختاروا رئيسا للوزراء، بعد حكومة عصام شرف، اختاروا رجلا فاق السبعين، واقترب من الثمانين، ظل هؤلاء يعطون الرسالة تلو الرسالة أن الجيل القديم لايزال يتحكم بمقاليد الأمور ومفاصل التسيير، وكل المسائل التي تتعلق بالتأثير، وأيا كان ذلك الأمر مؤشرا على تنحية الشباب، أو تهميشهم، فإن هذا كان يعني أن شبابا أطلق هذه الشرارة، وحمل، خلال هذه الثورات، آمالا وأهدافا، كان من المهم أن يوجد في المشهد، ولكن هؤلاء، سلطة ونخبة، أرادوا أن يصمموا كل المشاهد التي تتعلق بحركة الثورة، وتركوا هامشا من الارتجال للشباب، ليقوم بتظاهراتٍ، وما كان يسمى "المليونيات"، فتحول الشباب إلى حركةٍ مطلبيةٍ من دون شعور منهم أن ذلك يفرض عليهم سلوكا وأسلوبا قد يتغافل عن الحالة الثورية ومتطلباتها، وتحقيق أهداف الثورة، ومستلزمات شعارها.
ولا بأس في هذا المقام أن يُرفع شعار لا يعبر عن حقيقة الأمر، ولا عن طاقة الفعل الثوري، سوى أنه كان تلويحا لـ "تمكين الشباب". وعلى الرغم من أن الشباب الذي أطلق هذه الشرارة بالثورة، وأسهم في صناعة أيامها، كان معروفا، خصوصا من شكّل منهم قياداتٍ فعلية في الميادين، إلا أنه كان هناك حركة لتهميش دور الشباب، من خلال تمييع هذه الفئة، أتذكّر هنا دعوة المجلس العسكري إلى ائتلافات الشباب الثورية التي كانت، في حقيقة أمرها، لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة، إلا أنه وبتدبير منه وسع الدائرة باصطناع كياناتٍ شبابيةٍ وهميةٍ، حتى تضيع العناصر الفاعلة في "هوجة" صورة الشباب المصطنعة والمفتعلة، دُعي ما يقارب المائة كيان في مسرح الجلاء في 2 يونيو/ حزيران 2011، كانت تلك الخدعة تؤكد على ألاعيب شتى لإقصاء شبابٍ عن مساحات الفعل وساحات الفاعلية.
وبدت كل هذه الأمور ضمن حالة تهميشٍ عامة، اقتصادي ووظيفي، وتهميش ثقافي وسياسي،
وصار الأمر من حالات التهميش إلى حالات التهويش المتعمد في هذا المقام، وبدت هذه الأمور تتجه إلى صناعة الصورة لشباب الثورة والناشطين، وبدت كل الأمور تتداخل باستخدام كل مسالك الشيطنة والشياطين، بالانتقال من التهميش إلى التشويه، تبدو هذه الفترة الزمنية تتسم بالاضطراب الشديد التي أفرزت كثيرا من الحيرة ولفت الانتباه عن الأهداف الكبرى الحقيقية، والاستدراج نحو معارك ومواقف لا يمكن أن تصب في مصلحة الثورة والثوار، وبدت بعض هذه الرومانسيات التي تتعلق بالشباب وكأنها تمثل حال الغفلة عمّا تتطلبه الثورات، كان هذا هو دور الشباب عشية الثورات، وكانت تلك هي خطط الدولة العميقة والثورة المضادة في عملية التفاف واحتواء، وحصار للثورة وشبابها الذين يمثلون طاقة الفعل الحقيقية في هذا المقام.
تبدو تلك الأفكار التي يؤكد عليها المؤشر العربي في عدده السادس، والذي ترافق صدوره بعد ثورات الربيع العربي، من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ليدلل على هذه الحال. فقط دعنا نتحدث عن هذه النتائج التي تتعلق بهذا التقرير، لتؤكد رد فعل الشباب في تزايد رغبتهم بالهجرة الخارجية، باعتبارها من أهم المنافذ لخروج الشباب من حالات التشويه والتهميش، بكل أشكاله وأنواعه، اتخذ قرار الهجرة من الشباب، وتعدّدت الأسباب، إلا أن جملة الشباب في متوسط هذا المؤشر الذين يطلبون الهجرة، ويرغبون في ذلك، وصل إلى ربع مجتمع العينة.
في المؤشر العربي، ترد هذه النتائج "تُعدّ رغبة المواطنين في الهجرة إلى خارج بلدانهم مؤشرًا ذا دلالةٍ يُمكن استخدامه في التقييم العامّ لأوضاعهم بصفةٍ عامة، وفي تقييم أوضاع بلدانهم؛ إذ تُظهر النتائج أنّ 24% من المستجيبين "يرغبون في/ ينوون" الهجرة إلى الخارج، في مقابل 75% لا يرغبون في ذلك. وتشير النتائج، بحسب البلدان المستطلعة، إلى أنّ ما يزيد قليلًا على نصف المستجيبين في السودان يرغبون في الهجرة، في حين بلغت النسبة نحو الثلث في كل من المغرب ولبنان وتونس. وراوحت نسبة الذين أفادوا بأنهم يرغبون في الهجرة بين ربع المستجيبين وخُمسهم في كل من فلسطين، والعراق، وموريتانيا، والجزائر، والأردن. وكانت أقلّ نسبة، في هذا الشأن، في الكويت والسعودية؛ إذ عبّر 7% من الكويتيين و6% من السعوديين عن رغبتهم في الهجرة". وهو ما يفيد بأن الميل إلى الطلب على الهجرة ليس أمراً قليلا.
وبعد بضعة أيام، عقد المركز العربي مؤتمره السنوي للأمور الاجتماعية والإنسانية، والذي اختط مسارين، أحدهما حول "هجرة الشباب"، درس البلدان وفئات الشباب، وبحث عن الأسباب وعرض التفسيرات، كلها صبت في حالة التهميش للشباب، سواء أكان ذلك يتعلق بأوضاعهم المادية، أو بأوزانهم المعنوية؛ بين هذا وذاك، كان انسداد الأفق، على الرغم من أنهم يمثلون "هبة ديمغرافية"، ويمكن أن يتحول إلى طاقةٍ نوعية، إلا أن ألاعيب هؤلاء الذين تمرّسوا في سياسات هي أقرب إلى "تهجير الشباب"، حتى لو أدت إلى ذلك بشكلٍ غير مباشر، لتضع الشباب في مواجهة انسداد الأفق وتواري الأمل، سواء على نحو فردي، أو على مستوى مجتمعي.
إنها قضية الشباب والتغيير، إنها قضية الشباب والتأثير، التي بدأت بإشارة الثورات العربية، فإذا بهؤلاء يقطعون عليهم الطريق من كل اتجاه، فنجد أن "ربع الشباب" في العينة الممثلة يميل ويتجه إلى الهجرة إلى الخارج، يصل الأمر إلى أن يلقي كثيرون من هؤلاء بأنفسهم إلى موارد التهلكة، حتى يهاجروا إلى دول أوروبية في قوارب لا تقوى على حملهم، وغالبا لا تصل إلى مرفأ لأمانهم وتأمينهم، فيصل بعضهم ويغرق آخرون، وتظل أشواق وأعداد الهجرة تتزايد، حينما ينسد الأفق وتنقطع الآمال.. هذه هي قصة الشباب، قصة الشباب مع التغيير والتأثير، قصة الشباب مع التهميش والتشويه.
ومن ثم قفزت إلى مشاهد الثورة من نخب قديمة، أرادت أن تتصدر المشهد، وتتقدّم الصفوف، اعتاد هؤلاء من مثقفين وسياسيين أن ينتظروا التغيير، فإذا حان وقته، وكان الشباب أداته، قفزوا إلى المقدمة يعلنون أنهم مع التغيير ومع الثورة، وبدا هؤلاء، مع شهرتهم، يحرصون على التصدّر بمشاهد القرار، فيما يتعلق بالثورة والثوار.
ومن العجيب حقا أن نرى، مثلا، في الثورة المصرية التي حمل شرارتها من شباب مصر، واستطاعوا أن يعلنوا صيحتهم في ميدان التحرير والميادين الأخرى، وصدعوا بالآمال
وحينما أراد هؤلاء أن يختاروا رئيسا للوزراء، بعد حكومة عصام شرف، اختاروا رجلا فاق السبعين، واقترب من الثمانين، ظل هؤلاء يعطون الرسالة تلو الرسالة أن الجيل القديم لايزال يتحكم بمقاليد الأمور ومفاصل التسيير، وكل المسائل التي تتعلق بالتأثير، وأيا كان ذلك الأمر مؤشرا على تنحية الشباب، أو تهميشهم، فإن هذا كان يعني أن شبابا أطلق هذه الشرارة، وحمل، خلال هذه الثورات، آمالا وأهدافا، كان من المهم أن يوجد في المشهد، ولكن هؤلاء، سلطة ونخبة، أرادوا أن يصمموا كل المشاهد التي تتعلق بحركة الثورة، وتركوا هامشا من الارتجال للشباب، ليقوم بتظاهراتٍ، وما كان يسمى "المليونيات"، فتحول الشباب إلى حركةٍ مطلبيةٍ من دون شعور منهم أن ذلك يفرض عليهم سلوكا وأسلوبا قد يتغافل عن الحالة الثورية ومتطلباتها، وتحقيق أهداف الثورة، ومستلزمات شعارها.
ولا بأس في هذا المقام أن يُرفع شعار لا يعبر عن حقيقة الأمر، ولا عن طاقة الفعل الثوري، سوى أنه كان تلويحا لـ "تمكين الشباب". وعلى الرغم من أن الشباب الذي أطلق هذه الشرارة بالثورة، وأسهم في صناعة أيامها، كان معروفا، خصوصا من شكّل منهم قياداتٍ فعلية في الميادين، إلا أنه كان هناك حركة لتهميش دور الشباب، من خلال تمييع هذه الفئة، أتذكّر هنا دعوة المجلس العسكري إلى ائتلافات الشباب الثورية التي كانت، في حقيقة أمرها، لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة، إلا أنه وبتدبير منه وسع الدائرة باصطناع كياناتٍ شبابيةٍ وهميةٍ، حتى تضيع العناصر الفاعلة في "هوجة" صورة الشباب المصطنعة والمفتعلة، دُعي ما يقارب المائة كيان في مسرح الجلاء في 2 يونيو/ حزيران 2011، كانت تلك الخدعة تؤكد على ألاعيب شتى لإقصاء شبابٍ عن مساحات الفعل وساحات الفاعلية.
وبدت كل هذه الأمور ضمن حالة تهميشٍ عامة، اقتصادي ووظيفي، وتهميش ثقافي وسياسي،
تبدو تلك الأفكار التي يؤكد عليها المؤشر العربي في عدده السادس، والذي ترافق صدوره بعد ثورات الربيع العربي، من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ليدلل على هذه الحال. فقط دعنا نتحدث عن هذه النتائج التي تتعلق بهذا التقرير، لتؤكد رد فعل الشباب في تزايد رغبتهم بالهجرة الخارجية، باعتبارها من أهم المنافذ لخروج الشباب من حالات التشويه والتهميش، بكل أشكاله وأنواعه، اتخذ قرار الهجرة من الشباب، وتعدّدت الأسباب، إلا أن جملة الشباب في متوسط هذا المؤشر الذين يطلبون الهجرة، ويرغبون في ذلك، وصل إلى ربع مجتمع العينة.
في المؤشر العربي، ترد هذه النتائج "تُعدّ رغبة المواطنين في الهجرة إلى خارج بلدانهم مؤشرًا ذا دلالةٍ يُمكن استخدامه في التقييم العامّ لأوضاعهم بصفةٍ عامة، وفي تقييم أوضاع بلدانهم؛ إذ تُظهر النتائج أنّ 24% من المستجيبين "يرغبون في/ ينوون" الهجرة إلى الخارج، في مقابل 75% لا يرغبون في ذلك. وتشير النتائج، بحسب البلدان المستطلعة، إلى أنّ ما يزيد قليلًا على نصف المستجيبين في السودان يرغبون في الهجرة، في حين بلغت النسبة نحو الثلث في كل من المغرب ولبنان وتونس. وراوحت نسبة الذين أفادوا بأنهم يرغبون في الهجرة بين ربع المستجيبين وخُمسهم في كل من فلسطين، والعراق، وموريتانيا، والجزائر، والأردن. وكانت أقلّ نسبة، في هذا الشأن، في الكويت والسعودية؛ إذ عبّر 7% من الكويتيين و6% من السعوديين عن رغبتهم في الهجرة". وهو ما يفيد بأن الميل إلى الطلب على الهجرة ليس أمراً قليلا.
وبعد بضعة أيام، عقد المركز العربي مؤتمره السنوي للأمور الاجتماعية والإنسانية، والذي اختط مسارين، أحدهما حول "هجرة الشباب"، درس البلدان وفئات الشباب، وبحث عن الأسباب وعرض التفسيرات، كلها صبت في حالة التهميش للشباب، سواء أكان ذلك يتعلق بأوضاعهم المادية، أو بأوزانهم المعنوية؛ بين هذا وذاك، كان انسداد الأفق، على الرغم من أنهم يمثلون "هبة ديمغرافية"، ويمكن أن يتحول إلى طاقةٍ نوعية، إلا أن ألاعيب هؤلاء الذين تمرّسوا في سياسات هي أقرب إلى "تهجير الشباب"، حتى لو أدت إلى ذلك بشكلٍ غير مباشر، لتضع الشباب في مواجهة انسداد الأفق وتواري الأمل، سواء على نحو فردي، أو على مستوى مجتمعي.
إنها قضية الشباب والتغيير، إنها قضية الشباب والتأثير، التي بدأت بإشارة الثورات العربية، فإذا بهؤلاء يقطعون عليهم الطريق من كل اتجاه، فنجد أن "ربع الشباب" في العينة الممثلة يميل ويتجه إلى الهجرة إلى الخارج، يصل الأمر إلى أن يلقي كثيرون من هؤلاء بأنفسهم إلى موارد التهلكة، حتى يهاجروا إلى دول أوروبية في قوارب لا تقوى على حملهم، وغالبا لا تصل إلى مرفأ لأمانهم وتأمينهم، فيصل بعضهم ويغرق آخرون، وتظل أشواق وأعداد الهجرة تتزايد، حينما ينسد الأفق وتنقطع الآمال.. هذه هي قصة الشباب، قصة الشباب مع التغيير والتأثير، قصة الشباب مع التهميش والتشويه.