وترافقت زيارة الوفد الروسي مع مصادقة "مجلس الشعب" (البرلمان) السوري على عقود وقعت في سبتمبر/ أيلول الماضي مع شركتين روسيتين للتنقيب عن النفط والغاز في سورية. وأوضح وزير النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام علي غانم أن حقل النفط يقع في منطقة الجزيرة، شرق الفرات، بينما يقع حقل الغاز شمال دمشق، مشيراً إلى أنه ستكون هناك، خلال الفترة المقبلة، عقود مع شركة روسية للتنقيب عن مصادر الطاقة في مياه المتوسط.
وتزامن ذلك، مع تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أشار فيها إلى أنه قدم عرضاً لقادة بعض الدول يقضي بإنفاق عائدات النفط في سورية على سكان "المنطقة الآمنة" في الشمال السوري، لافتاً إلى أنه لم يتلق أي رد على مقترحه. وأضاف أردوغان، وفق وكالة "الأناضول"، أنه في حال حصلت أنقرة على المال فسيتم العمل على تنفيذ خطط لبناء هذه الأماكن من نقطة الصفر، مشيراً إلى أن تركيا ستشارك في هذه المهمة مع الجانب الغربي وروسيا، مشدداً على أن أنقرة "لا تهتم بالنفط، بل تولي اهتماماً لأمن ورفاه السكان الذين يعيشون في تلك المناطق". وكان أردوغان قد قال، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إن تركيا رفضت عرضاً بشأن تقاسم النفط في سورية، من دون أن يحدد الجهة التي قدمت العرض، مضيفاً "نحن همنا الإنسان وليس النفط".
وكانت الولايات المتحدة قد ذكرت بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الشمال السوري في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنها ستبقي على نحو 500 جندي لحماية المنشآت النفطية في شرق البلاد، إلى جانب القوات الكردية. وقال ترامب "سنحاول التوصل لحل مع الأكراد يضمن لهم بعض التدفقات النقدية من النفط. وقد نسمح لواحدة من شركات النفط الكبرى بالدخول إلى المنطقة، والقيام بذلك بشكل صحيح". ووصفت وزارة الدفاع الروسية، وقتها، هذه الإعلانات بمثابة "لصوصية عالمية". وفي الأسابيع الأخيرة، دفعت روسيا بالمزيد من قواتها إلى مناطق شرق الفرات، بالتوازي مع قوات مماثلة للنظام السوري، استعداداً كما يبدو لمعركة محتملة للسيطرة على حقول النفط هناك، فيما عززت إيران ومليشياتها من حضورها العسكري، خصوصاً في منطقة البوكمال.
واقع النفط السوري اليوم
ومع هذا التحشيد المحلي والإقليمي والدولي باتجاه النفط السوري، يبرز السؤال حول حجم الإنتاج، وما هو واقع استثماره بعد 8 سنوات من الحرب التي دمرت الكثير من المنشآت النفطية، بسبب تبادل عمليات السيطرة على الحقول، منذ أن بدأ النظام يفقدها اعتباراً من العام 2012 لصالح فصائل المعارضة السورية أولاً، ومن ثم انتقال معظمها ليد تنظيم "داعش"، وصولاً إلى وقوعها اليوم تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي تمثل "وحدات حماية الشعب" الكردية عمودها الفقري.
ويعتبر النفط مورداً أساسياً للدخل السوري. وتظهر بيانات موقع "بريتش بتروليوم" للنفط أن الإنتاج في سورية بلغ نحو 400 ألف برميل في 2009، ثم أصبح 385 ألفاً في 2010، و353 ألف برميل في 2011، و171 ألفاً في 2012، و59 ألف برميل في 2013، و33 ألفاً في 2014، ثم أقل من 27 ألف برميل اعتباراً من 2015 وحتى اليوم. والمقصود بهذه الأرقام هو الإنتاج الرسمي للنظام السوري، بينما كان هناك على الدوام إنتاج موازٍ من جانب القوى التي تسيطر على النفط. ويبلغ احتياطي سورية النفطي نحو 2.5 مليار برميل، ويعتبر محدوداً مقارنة مع الدول النفطية في المنطقة العربية.
"قسد" والنظام السوري
وبسبب وجود مصفاتي النفط الوحيدتين في البلاد (بانياس وحمص، وتنتجان معاً نحو 200 ألف برميل من النفط المكرر) تحت سيطرة النظام السوري، اضطرت "قسد"، وقبلها تنظيم "داعش"، إلى بيع النفط للنظام السوري ليعاد تكريره في هاتين المصفاتين، إذ إن ذلك أجدى مادياً، في ظل التكاليف العالية لنقله وتكريره في دول أخرى. وحسب موقع "أويل برايسز" المختص بأخبار النفط والطاقة، فإن "قسد"، التي تسيطر اليوم على أهم حقول النفط في محافظتي الحسكة ودير الزور، شرق البلاد، تبيع برميل النفط الخام بـ30 دولاراً للنظام السوري، وتؤمن نحو 10 ملايين دولار شهرياً جراء ذلك.
ويحصل النظام على النفط من "قسد" عبر وسطاء وشركات تأسست خلال الحرب لهذا الغرض، وهم أنفسهم كانوا يشترون النفط من تنظيم "داعش" ويقومون بإيصاله إلى مناطق النظام، وأبرزهم رجل الأعمال حسام القاطرجي الذي ظهر اسمه خلال الحرب كمالك لمجموعة القاطرجي، وأصبح عضواً في البرلمان، وتتبع له مليشيا متخصصة بنقل النفط إلى مناطق سيطرة النظام. وإضافة إلى القاطرجي، الذي فرضت عليه عقوبات أوروبية بسبب دوره في دعم النظام، برز أيضاً اسم الوسيط عمار السوسي، الذي تعهد بإيصال النفط والغاز إلى مناطق النظام. وحصل السوسي على عقد بقيمة 11 مليون يورو لتشغيل وصيانة معمل غاز الجبسة، على أن يتكفل بعمليات الإصلاح. والسوسي أحد ممولي "جمعية البستان الخيرية" التي تدير مليشيا مسلحة في سورية، وصاحبها رامي مخلوف، قريب رئيس النظام بشار الأسد.
وحسب مصادر متقاطعة، فإن الاتفاق بين "قسد" والنظام السوري يقضي بمقايضة 100 برميل من النفط الخام المستخرج من حقلي العمر والتنك، اللذين تشرف عليهما "قوات سورية الديمقراطية"، بـ75 برميلاً من المازوت الذي يقوم النظام بتكريره، بالإضافة إلى حصول "قسد" على الكهرباء والخدمات في مناطق سيطرتها، إلى جانب تغطية حاجاتها النفطية. وحسب المصادر، فإنه يتم نقل النفط الخام من حقلي العمر والتنك إلى حقل التيم، جنوب دير الزور، الواقع تحت سيطرة النظام ومنه إلى مصفاة حمص، بينما ينقل الغاز من حقول العمر والتنك والجفرة إلى معمل "كونيكو" في دير الزور، ومنه إلى حقل التيم وبعدها إلى محطة جندر الحرارية في حمص. ووفق بيان لـ"الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، في 19 سبتمبر/ أيلول الماضي، فإن الحقول النفطية الخاضعة لسيطرة "قسد" تنتج نحو 14 ألف برميل يومياً، وهي تبيع البرميل للنظام بنحو 30 دولاراً، أي بعائد يومي يقدر بـ420 ألف دولار، وعائد سنوي يقدر بـ378 مليون دولار، باستثناء عائدات الغاز. ويأتي تعامل "قسد" والنظام السوري في مجال النفط على الرغم من التحذيرات الأميركية لمن يُساهم في تزويد النظام بالمحروقات، إلى جانب فرض واشنطن، خلال الأعوام الماضية، عقوبات اقتصادية على شركات وأشخاص ساهموا بنقل المحروقات إلى النظام.
أهم الحقول
تعد حقول نفط رميلان والسويدية بريف الحسكة والعمر والتنك بريف دير الزور من أبرز حقول النفط التي تسيطر عليها "قسد". وينتج حقل العمر حالياً نحو 45 ألف برميل يومياً، بينما كان ينتج سابقاً ضعف هذا الرقم. ويليه حقل التنك، الذي قُدر إنتاجه قبل 2013 بنحو 40 ألف برميل يومياً، بينما يقدر إنتاجه حالياً بما بين 10 و15 ألف برميل. أما حقل الرميلان في الحسكة فكان ينتج نحو 90 ألف برميل يومياً، فيما كان حقل السويدية ينتج نحو 116 ألف برميل يومياً. وجميع هذه الحقول تحت سيطرة "قسد"، أما النظام فهو يسيطر على حقول أقل أهمية، مثل التيم والورد والخراطة، جنوب محافظة الحسكة، وكانت تنتج نحو 50 ألف برميل يومياً. وبلغت خسائر قطاع النفط والغاز في سورية خلال سنوات النزاع نحو 74 مليار دولار أميركي، وفق ما ذكر وزير النفط والثروة المعدنية لدى النظام علي غانم لوسائل إعلام رسمية أخيراً.
وفي 2017، وإثر استعادة قوات النظام السيطرة على حقول حمص، بعدما كانت بيد "داعش"، ارتفع الإنتاج بشكل محدود، وفق غانم، إلى ما يقارب 17 مليون متر مكعب من الغاز، و24 ألف برميل من النفط الخام. إلا أن هذا الإنتاج لا يسدّ حاجة سورية، التي قدرها غانم بنحو 136 ألف برميل نفط يومياً، وبالتالي، فإن ما ينتج حالياً يغطي نحو 20 في المائة من الحاجة الفعلية من النفط، وما بين 60 و70 في المائة من حاجتها للغاز. ولتغطية هذا النقص، عمد النظام إلى استيراد النفط، عبر الالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية، معتمداً بشكل رئيسي على خط ائتمان من إيران. لكن العقوبات الأميركية على طهران عقّدت الموضوع أكثر، فتوقف الخط الائتماني عن العمل، ولم تصل أي ناقلة نفط منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وفق صحيفة "الوطن" المقربة من النظام، ما أدى إلى تواصل أزمة المحروقات. وكان وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قد قال، في 2 أكتوبر الماضي، إن ناقلة النفط الإيرانية "أدريان داريا 1" أفرغت حمولتها قرب سواحل سورية.
التنافس الدولي
بينما كان النظام السوري، مدعوماً بروسيا، يستعد لسد الفراغ الحاصل، واستعادة السيطرة على الحقول النفطية بعد إعلان واشنطن نيتها سحب قواتها من سورية، فاجأ ترامب الجميع، في أكتوبر الماضي، بإعلانه إبقاء قوات أميركية لحماية حقول النفط من تنظيم "داعش" ومن النظام السوري أيضاً. أما إيران، التي بسطت منذ العام 2017 سيطرتها على منطقة البوكمال، شرق سورية، ووضعت يدها على معبر القائم، لتأمين طريق نقل بري يصل إيران بالساحل السوري عبر العراق، وتسعى لتحصيل المزيد من العقود للاستثمار في مجال الطاقة بسورية، فإنها تبدو اليوم محاصرة بالوجود الأميركي المعادي في مناطق شرق الفرات من جهة، وفي مواجهة حليفها الروسي الذي يستأثر لغاية الآن بأهم العقود النفطية في البلاد من جهة أخرى.
وتبدو روسيا، التي تُسيّر اليوم دوريات عسكرية في بعض مناطق النفط بالتنسيق مع تركيا، اللاعب الأقوى على الساحة السورية، في مواجهة اللاعب الأميركي، وبيدها تحديد ملامح أي حل سياسي مقبل. وبينما تفرض الولايات المتحدة هيمنتها عبر حلفائها على أغلب حقول النفط السورية، تستحوذ روسيا على عقود استكشاف الغاز الطبيعي في شرق حمص والبحر المتوسط، حيث توجد أكبر قاعدة عسكرية لها في الشرق الأوسط في طرطوس، فضلاً عن حق استخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر. ويرى مراقبون أن السياسة الأميركية في سورية تبدو بلا أفق استراتيجي، خلافاً لروسيا. وتكاد تنحصر أهداف هذه السياسة في تمويل قواتها الموجودة في المنطقة، إضافة إلى تمويل حليفتها "قسد" بهدف تخفيض تكاليفها من أموال ميزانية وزارة الدفاع الأميركية. يضاف إلى ذلك، محاولة حرمان النظام السوري وروسيا من الوصول إلى آبار النفط، وبالتالي إبقاء النظام تحت حصار اقتصادي، بغية استثمار ذلك سياسياً في ما بعد. ولعل الرسالة الأميركية الرئيسية الموجهة إلى "محور أستانة" هي أن النفط السوري مجرد ورقة سياسية تستخدمها واشنطن لمنع إتمام أي حل سياسي لا يحصل على موافقتها.