14 نوفمبر 2024
التعذيب والرقابة لإخضاع المجتمع المصري
ترتبط النظم السلطوية باستخدام أدوات الرقابة والتعذيب والسجن بكثافة، بديلاً عن المنافسة والحوار، وأدوات لاستمرار حكمها بالقهر والإذعان. لا داعي هنا لكسب التأييد أو سماع الرأى العام والاستجابة له، فلدى السلطة ما يكفيها من أساليب الحكم القاهر التي تغنيها عن الاستماع للمختلفين معها. يوظف النظام في مصر ترسانة القوانين الاستبدادية التي توارثها، لتصبح سيفاً مسلطاً تشهره فى ساحات القضاء. ويأتي الحكم الصادر أخيراً ضد نقيب الصحافيين المصريين، يحيى قلاش، واثنين من أعضاء مجلس النقابة، بالحبس عامين، فى هذا السياق، وهو رسالة لتكميم الأفواه أكثر عنفاً من المنع من الكتابة، كما حدث مع أسامة الغزالي حرب، أو منع إذاعة لقاء مع الرئيس السابق لجهاز المحاسبات، هشام جنينه، على قناة المحور. ويأتى في سياق العنف الممنهج أيضاً شل الحركة النقابية والعمالية وتجريمها. وفي هذا السياق، تتكرّر الوقائع، فمن الهجوم على نقابة الأطباء، واتهام عضو مجلس النقابة، منى مينا، بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، حين اعترضت على نقص المستلزمات الطبية، إلى القبض على عمال في النقل العام وعمال في الترسانة، وتحويلهم إلى محاكمات عسكرية. وفي أقسامٍ للشرطة، تستحل حرمة الأجساد ويمارس التعذيب، ولا يهم إن كان المعذّبُ ينتمي إلى إحدى جماعات الفعل السياسي أو النقابي، أو مواطناً عادياً مثل بائع السمك، مجدي مكين، الذي عذّب حتى الموت، إننا أمام مشهد عنوانه الرئيسي كيف يتم إخافة المجتمع ككل، وشل حركته. ليس التعذيب حتى الموت عملاً مجانياً، أو فردياً كما يصفه بعض مؤيدي السلطة، وليس كذلك مجرد خطأ جسيم نتاج عدم قدرة أفراد الشرطة في التعامل بشكل احترافي فى مهامهم الأمنية، ليس ضعفاً في الكفاءة، كما يروّج بعضهم، إنها ممارسة منهجية، تستهدف، في أحد جوانبها، إخراس المجتمع.
لا تستطيع النظم البوليسية الحياة إلا بإعادة إنتاج آليات الاستبداد والقمع، مستخدمة العنف في أبشع صورة. مجدي مكين بائع أسماك متجول، صدمت عربته الكاروا سيارة شرطة، فاعتدى عليه أفراد الأمن، وسحلوه في الشارع. وحسب رواية الشهود، لم تشفع توسّلات الضحية فى توقيف الاعتداء والإهانة، وحين اشتكى قائلاً "حسبنا الله ونعم الوكيل" كبّلوه، ليكملوا حلقة التعذيب في قسم الأميرية ليموت بعد ساعتين. بعد أن نشرت أسرة الضحية صور آثار التعذيب تشكّلت حالة من التعاطف والتضامن، بينما نفت وزارة الداخلية الواقعة في البداية، كالعادة، وقالت إن المجني عليه سقط نتاج مرض السكر، وحاول الضباط إنقاذه، بعد تعرّضه لهبوطٍ حاد فى الدورة الدموية. ومع استمرار الضغوط، أعلنت "الداخلية" أنها ستباشر التحقيق مع أفراد الأمن والضابط محل الاتهام، في محاولة منها لتهدئة الرأي العام الغاضب، ثم دخل البرلمان في محاولة للتشويش واحتواء الموقف، فزار وفد لجنة حقوق الإنسان في البرلمان أسرة الضحية، وحذّروهم من استغلال النشطاء السياسيين الحادثة. ليس غريباً أن يصدر التحذير من تلك اللجنة التي يرأسها علاء عابد، الضابط السابق في مباحث أمن الدولة، والمتهم بممارسة التعذيب في أثناء فترة عمله. أغلب وفد اللجنة من المعادين لحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وفي مقدمتهم محمد الغول، وهو ضابط سابق، وخليفة عبدالرحيم الغول، أحد أبرز رموز الحزب الوطني فى صعيد مصر.
واقتراباً من سيناريو مقتل الشاب السكندري، خالد سعيد، قبيل ثورة 25 يناير، والذي اتهم بحيازة مخدر البانغو، أعلنت الداخلية المصرية أنه كان في حوزة مجدي مكين مئتا قرص من الترامادول، في تكرار فج لسيناريو مكشوف، وتبرير مفضوح للتعذيب. وفي البال أن ضابطاً اعتدى، قبل الثورة، على سائق المكروباص، عماد الكبير، الذي مورس عليه قهر متعمد، عذّب وانتهك جنسياً، ووزع أعوان الأمن فيديو للجريمة في ممارسة لأبشع أنواع القهر.
منذ عامين، تتردد أصداء أحداث سوء المعاملة والتعذيب والقتل. وحسب رصد مركز النديم الذي اعتمد على ما نشرته الصحف، مات جرّاء التعذيب 137 حالة في العام 2015، بينما تضمن أرشيف القهر 65 حالة تعذيب في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. والحوادث التي أثارت الرأي العام ممتدة، مورس معظمها ضد فقراء، فمن حادثة تعذيب ضحية الأقصر إلى حادثة مقتل سائق الدرب الأحمر، ومنها إلى حادثة مقتل بائع الشاي في مدينة الرحاب، وصولاً إلى بائع سمك الزاوية الحمراء، أمثال العم مجدي، والذين تعرّضوا للتعذيب كثيرون. لكن، لا نعرف منهم إلا من يتجاسر أهله بالشكوى، فالفقراء الذين بلا سند حين يعذّبون، غالباً لا تكتشف قصصهم المأساوية. وبين المهمشين والتعذيب عوامل ارتباط، فالتعذيب أداة للسيطرة والتخويف، واستمرار لنمط الحكم الذي ينشأ على أرضية تقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، وهو نتاج رؤية نظام يرى المهشمين فائضاً بشرياً لا قيمة لهم، كما إن انتهاك حرمة الجسد قضيةٌ ترتبط بطبيعة مجتمعاتنا ونظمها السياسية التي تعتبر المواطن ملكيةً، يتصرف فيها الحاكم، فيمارس القهر والتجويع والحصار. إنه نمط من الحكم لم يبرح الشكل التقليدي لحكم الملك الإله الذي يحيي ويميت وبيده الأمر (!).
ليس المواطنون المصريون الفقراء مستبعدين اجتماعياً فحسب، ولكن عظامهم معرضةٌ للتهشيم، كما حدث مع مجدي مكين، أو للموت طحناً كما حدث مع محسن فكري فى المغرب. ومن هنا، ليست مصادفةً أن يتشابه نمط التعامل البوليسي في الوطن العربي، فقد حكمتها نظمٌ مستبدة، وظيفة أجهزة الأمن فيها حماية قوى النهب عن طريق إخضاع المجتمع. وفي سبيل هذا الهدف، ترتكب أبشع صور العنف المادي، كالتعذيب، وتجند نخبٌ تمارس عنفاً رمزياً، يقابل العنف المادي، لتبرير التعذيب باسم مكافحة الإرهاب، والحفاظ على هيبة الدولة، وكأن الدولة ووظائفها لا تكتمل إلا بانتهاك حرمة الأجساد.
على عكس ما تبرّر به هذه الانتهاكات باسم حماية الدولة، يبرز العنف كأنه أداة انتقام من الأجساد التي انتفضت. وعلى هؤلاء الاستسلام للأمر الواقع، ليست فحسب أدوات القمع من سجن ورقابة وحظر وتعذيب موجهة إلى الفاعلين فى المجال العام، فسجن الإرادة وشل القدرة على الفعل يستلزم بث حالةٍ من الرعب والتخويف على أوسع نطاق. الآن، يمارس استبعاد سياسي بطرق شتى، منها سجن المعارضين، بغرض كسرهم وشل فاعليتهم ومحاصرة أفكارهم. لم تعرف مصر في عصرها الحديث كل هذه الأعداد من السجناء التي تجاوزت 30 ألف، منهم ثلاثة آلاف طالب جامعي. وإذا كانت ثورة يناير انتفاضاً لجسد المجتمع ضد جسد السلطة، فإن التعذيب أداة للهيمنة، وسجن هذا الجسد الذي انتفض ضد ظالميه. ويستمد التعذيب، كممارسة، وجوده من المناخ السياسي الذي يبرّر العنف، ويروجه خطاب إعلامي فاشي، يبدل دولة القانون بدولة القمع. ليس بالضرورة يكون التعذيب مرتبطاً بتعليماتٍ مباشرة، لكنه كممارسة نتاج نهائي لمناخ وخطاب سلطوي، وهو أيضاً انعكاس لتوازنات القوى فى المجتمع وتراجع المجال العام.
وحين تغيب قوة العقل والمحاجة والصراع الاجتماعي والسياسي، تحل لغة العنف بديلاً، والحصار والمراقبة كسياسة لنشر الذعر والخوف، مقدمات لفرض السيطرة والهيمنة على المجتمع. وحين تغيب قوة الشعب، تبرز سطوة الأجهزة الأمنية وسيطرتها، ليس فحسب على مؤسسات الدولة، ولكن على كل مناحي الحياة، بداية من اختيار رؤساء الجامعات وكبار الموظفين وقوائم البرلمان، وصولاً إلى الوزراء، وحتى إنشاء المجمعات الاستهلاكية.
لا تستطيع النظم البوليسية الحياة إلا بإعادة إنتاج آليات الاستبداد والقمع، مستخدمة العنف في أبشع صورة. مجدي مكين بائع أسماك متجول، صدمت عربته الكاروا سيارة شرطة، فاعتدى عليه أفراد الأمن، وسحلوه في الشارع. وحسب رواية الشهود، لم تشفع توسّلات الضحية فى توقيف الاعتداء والإهانة، وحين اشتكى قائلاً "حسبنا الله ونعم الوكيل" كبّلوه، ليكملوا حلقة التعذيب في قسم الأميرية ليموت بعد ساعتين. بعد أن نشرت أسرة الضحية صور آثار التعذيب تشكّلت حالة من التعاطف والتضامن، بينما نفت وزارة الداخلية الواقعة في البداية، كالعادة، وقالت إن المجني عليه سقط نتاج مرض السكر، وحاول الضباط إنقاذه، بعد تعرّضه لهبوطٍ حاد فى الدورة الدموية. ومع استمرار الضغوط، أعلنت "الداخلية" أنها ستباشر التحقيق مع أفراد الأمن والضابط محل الاتهام، في محاولة منها لتهدئة الرأي العام الغاضب، ثم دخل البرلمان في محاولة للتشويش واحتواء الموقف، فزار وفد لجنة حقوق الإنسان في البرلمان أسرة الضحية، وحذّروهم من استغلال النشطاء السياسيين الحادثة. ليس غريباً أن يصدر التحذير من تلك اللجنة التي يرأسها علاء عابد، الضابط السابق في مباحث أمن الدولة، والمتهم بممارسة التعذيب في أثناء فترة عمله. أغلب وفد اللجنة من المعادين لحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وفي مقدمتهم محمد الغول، وهو ضابط سابق، وخليفة عبدالرحيم الغول، أحد أبرز رموز الحزب الوطني فى صعيد مصر.
واقتراباً من سيناريو مقتل الشاب السكندري، خالد سعيد، قبيل ثورة 25 يناير، والذي اتهم بحيازة مخدر البانغو، أعلنت الداخلية المصرية أنه كان في حوزة مجدي مكين مئتا قرص من الترامادول، في تكرار فج لسيناريو مكشوف، وتبرير مفضوح للتعذيب. وفي البال أن ضابطاً اعتدى، قبل الثورة، على سائق المكروباص، عماد الكبير، الذي مورس عليه قهر متعمد، عذّب وانتهك جنسياً، ووزع أعوان الأمن فيديو للجريمة في ممارسة لأبشع أنواع القهر.
منذ عامين، تتردد أصداء أحداث سوء المعاملة والتعذيب والقتل. وحسب رصد مركز النديم الذي اعتمد على ما نشرته الصحف، مات جرّاء التعذيب 137 حالة في العام 2015، بينما تضمن أرشيف القهر 65 حالة تعذيب في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. والحوادث التي أثارت الرأي العام ممتدة، مورس معظمها ضد فقراء، فمن حادثة تعذيب ضحية الأقصر إلى حادثة مقتل سائق الدرب الأحمر، ومنها إلى حادثة مقتل بائع الشاي في مدينة الرحاب، وصولاً إلى بائع سمك الزاوية الحمراء، أمثال العم مجدي، والذين تعرّضوا للتعذيب كثيرون. لكن، لا نعرف منهم إلا من يتجاسر أهله بالشكوى، فالفقراء الذين بلا سند حين يعذّبون، غالباً لا تكتشف قصصهم المأساوية. وبين المهمشين والتعذيب عوامل ارتباط، فالتعذيب أداة للسيطرة والتخويف، واستمرار لنمط الحكم الذي ينشأ على أرضية تقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، وهو نتاج رؤية نظام يرى المهشمين فائضاً بشرياً لا قيمة لهم، كما إن انتهاك حرمة الجسد قضيةٌ ترتبط بطبيعة مجتمعاتنا ونظمها السياسية التي تعتبر المواطن ملكيةً، يتصرف فيها الحاكم، فيمارس القهر والتجويع والحصار. إنه نمط من الحكم لم يبرح الشكل التقليدي لحكم الملك الإله الذي يحيي ويميت وبيده الأمر (!).
ليس المواطنون المصريون الفقراء مستبعدين اجتماعياً فحسب، ولكن عظامهم معرضةٌ للتهشيم، كما حدث مع مجدي مكين، أو للموت طحناً كما حدث مع محسن فكري فى المغرب. ومن هنا، ليست مصادفةً أن يتشابه نمط التعامل البوليسي في الوطن العربي، فقد حكمتها نظمٌ مستبدة، وظيفة أجهزة الأمن فيها حماية قوى النهب عن طريق إخضاع المجتمع. وفي سبيل هذا الهدف، ترتكب أبشع صور العنف المادي، كالتعذيب، وتجند نخبٌ تمارس عنفاً رمزياً، يقابل العنف المادي، لتبرير التعذيب باسم مكافحة الإرهاب، والحفاظ على هيبة الدولة، وكأن الدولة ووظائفها لا تكتمل إلا بانتهاك حرمة الأجساد.
على عكس ما تبرّر به هذه الانتهاكات باسم حماية الدولة، يبرز العنف كأنه أداة انتقام من الأجساد التي انتفضت. وعلى هؤلاء الاستسلام للأمر الواقع، ليست فحسب أدوات القمع من سجن ورقابة وحظر وتعذيب موجهة إلى الفاعلين فى المجال العام، فسجن الإرادة وشل القدرة على الفعل يستلزم بث حالةٍ من الرعب والتخويف على أوسع نطاق. الآن، يمارس استبعاد سياسي بطرق شتى، منها سجن المعارضين، بغرض كسرهم وشل فاعليتهم ومحاصرة أفكارهم. لم تعرف مصر في عصرها الحديث كل هذه الأعداد من السجناء التي تجاوزت 30 ألف، منهم ثلاثة آلاف طالب جامعي. وإذا كانت ثورة يناير انتفاضاً لجسد المجتمع ضد جسد السلطة، فإن التعذيب أداة للهيمنة، وسجن هذا الجسد الذي انتفض ضد ظالميه. ويستمد التعذيب، كممارسة، وجوده من المناخ السياسي الذي يبرّر العنف، ويروجه خطاب إعلامي فاشي، يبدل دولة القانون بدولة القمع. ليس بالضرورة يكون التعذيب مرتبطاً بتعليماتٍ مباشرة، لكنه كممارسة نتاج نهائي لمناخ وخطاب سلطوي، وهو أيضاً انعكاس لتوازنات القوى فى المجتمع وتراجع المجال العام.
وحين تغيب قوة العقل والمحاجة والصراع الاجتماعي والسياسي، تحل لغة العنف بديلاً، والحصار والمراقبة كسياسة لنشر الذعر والخوف، مقدمات لفرض السيطرة والهيمنة على المجتمع. وحين تغيب قوة الشعب، تبرز سطوة الأجهزة الأمنية وسيطرتها، ليس فحسب على مؤسسات الدولة، ولكن على كل مناحي الحياة، بداية من اختيار رؤساء الجامعات وكبار الموظفين وقوائم البرلمان، وصولاً إلى الوزراء، وحتى إنشاء المجمعات الاستهلاكية.