التسليب اللغوي.. تشويهات بجذور استعمارية

07 نوفمبر 2017
أحمد مغربي/ مصر
+ الخط -

بديهي أنَّ الألسنة البشرية - وعلى مدار التاريخ - تتفاعل في ما بينها، وتقترض الكلمات، بعضُها من بعض، بعفوية يصعب تقنينها. وتتساوى كل هذه الألسنة في مبدأ الاقتراض المعجمي، ولا سيما عندما يحتاج اللسان المُقترِض إلى معنى دقيق لا يوجد في متنه، أو إن أراد إغناء رصيده وتطعيمه.

ولئن حظي الاقتراض بالعديد من الدراسات، فإنَّ ظاهرة تشويه معاني الكلمات المستعارة لم يتطرّق إليها الباحثون بالقدر الكافي. ويتمثل التشويه في إضفاء سماتٍ سلبية على الكلمات أثناء انتقالها من لغة إلى أخرى، إلى جانب ما يضفيه الاقتراض من شُحناتٍ وفُويرقات (nuances) تُبعد الكلمةَ عن دلالتها الأصلية المحايدة، أو الإيجابية، فتصبح حاملةً لبعد سلبي مستهجَن.

ويسمى هذا التحوّل بالفرنسية Péjoration ونقترح ترجمته بـ"التسليب"، بما هو تحويرٌ سلبي لدلالة المفردة المقتَرَضة، ونقلها من الحياد إلى الاستهجان. وسنعرض أمثلة عن هذا السلوك الاستعاري، في محاولةٍ لفهمه ومعرفة العوامل التي تفضي إلى اطراده في المشهديْن: اللساني والسياسي العربي.

يعرّف الألسني الفرنسي جون- بول بورال، في كتابه "أبحاث في الألسنية الأجنبية" (1975)، التسليب بكونه "عَملية تخفيض من قيمة الكلمة التي تدلّ - في معناها الأصلي - على مدلولٍ مُحايد، ومع مرور الزمن يصبح ذلك المدلول سلبياً. ويفضي هذا المسار إلى تخصيص دلالة الكلمة بهذا المعنى (السلبي) الجديد وإعطائها معنىً مختلفاً عن ذلك الذي كانت تحيل عليه في الأصل". فالمعنى السلبي، حسب هذا المنظور السيميائي، هو شحنةٌ تلصقُ بكلمة أو بعبارة ما، يستخدمها المتكلم بغرض السخرية، الاحتقار أو الاستقباح لموضوعٍ ما. وقد تندرج المفردات السلبية ضمن حقل الشتائم والتهكم والتحقير.

وأما في المنظور الدياكروني، فيطلق هذا المصطلح على تطوّر دلالة الكلمات في اتجاه سلبيٍّ، تصنعه السياقات الجديدة التي تستخدم فيها الكلمة بعد اقتراضها، مع تطابق المدلول المستقبح مع التلقي الاجتماعي له.

والذي يعنينا أكثر في هذا التطوّر هو استعماله في الحقل السياسي- الثقافي حيث اقترضت اللغات الأوروبية، وخصوصاً الفرنسية، العديد من الكلمات العربية وألحقت بها دلالاتٍ سلبية، وغدت تطلقها على ما له علاقة بالثقافة العربية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم الكلمات المُسَلَّبَة وقعت استجلابها أثناء المرحلة الاستعمارية للمغرب العربي، حيث قرن الفرنسيون (الساسة، الجنود، المستعمرون، والتجار...) ظواهر الانحطاط بألفاظٍ عربية فَرْنَسوها، في آلية نفسية دقيقة تقرن صفة الدونية بكل ما هو عربي.

ولتوضيح هذه الظاهرة، نعرض هذه الأمثلة لكلمات اقترضتها اللغات الأوروبية من لغة الضاد، مضفيةً عليها معاني شديدة السلبية، فصارت تحيل على دلالاتٍ مستقبحة، مثل "بَلَد" التي صارت Bled ، للإحالة على قرية نائية مقطوعة، أو على بلد المهاجرين الأصلي، الفقير النائي.

وكلمة "جهاد" وقد استنسختها أغلب اللغات الأوروبية بمقابل Djihad، وقرنتها بالإرهاب والتقتيل، حتى تلاشى منها معنى الجهد المَبذول. ولنا أيضاً مفردة "بُرقع" وصارت Burqa، للدلالة على الغطاء الأسود الشامل لكل جسد المرأة، بعد أن كان خاصاً بالوجه فقط. وأما عبارة "السلام عليكم" فغدت كلمة منحوتةً Salamalecs تفيد: الثرثرة والسؤال عن الأحوال بشكلٍ مبالغ فيه. كما تحوّلت كلمة سوق إلى Souk للدلالة على الفوضى. والطريف أنَّ كلمة "عربية" صارت Charabia لإفادة: الجَلبة واللغط. وسنوسّع تحليلنا بالعودة إلى مثليْن فقط، وهما "قائد" و"سوق"، على أمل أن يطبّق هذا التحليل على سائر المفردات المشابهة، لدراسة مدى اطراد الظاهرة وشمولها.

استعارت اللغة الفرنسية كلمة "قائد" منذ سنة 1210 للدلالة على القائد العسكري المسلم الذي يخوض الحرب ضد الصليبيين. ثم ترسّخ هذا الاستعمال الغربي، في كلٍّ من فرنسا وإسبانيا، في القرون الوسطى. ففي سنة 1694، وطبقاً للمعلومات التي وثقها "مَكنز اللغة الفرنسية"، صارت اللفظة تدل على شخصية مهمة ذات نفوذٍ وحَيْثية. كما استخدمت في القرن التاسع عشر للإحالة على وظيفة إدارية، في ظل الحكم العثماني، فالقائد هو الذي يدير أمور بلدةٍ صغيرة (ويقابله المُختار في دول المشرق).

ومنذ سنة 1935، أثقِلت الكلمةُ بدلالة شديدة السلبية، وارتبطت في التداول الراهن بصورة شابٍّ شقي، يرأس عصابة من المنحرفين. بل صارت، في كتاب جديدٍ للصحافي الفرنسي فريدريك بلوكان، تدل على المجرمين الذين يسطون على البنوك ويَتجرون بالمخدرات. وقد يصل الانفصام اللغوي إلى مستوى لافتٍ، فيُعبَّر عن فكرة "القيادة" بمفردَتَيْن مقترضتَيْن من لسانَيْن متباعديْن: فإن كان مقتدراً سمّي Leader باستعارة المفردة من الإنكليزية، وإن كان طاغيةً منحرفاً سمّي Caïd، باقتراض اللفظ العربي. وهكذا افتقدت الكلمة - في اللسان الفرنسي- كل معاني الرئاسة والتسيير والإشراف.

وأما مفردة "سوق" فهي فصيحة أثيلة، وردت في القرآن بصيغة الجمع مرتين (الفرقان: 7 و20) دليلاً على عراقتها، فهي من صور البيان ومجازاته، إذ تعني سَوْقَ الإبل إلى مَحلِّ بيعها، ثم صارت تدلُّ، بحكم علاقة المحلية، على مكان البيع الذي إليه تساقُ المواشي، وفيه يلتقي الشعراء للتنافس في إنشاد القريض.

ولكنَّ المستعمر الفرنسي أدرك من الأسواق أشكالاً بدائية، في القرن التاسع عشر، في تجمعات فلاحي المغرب العربي، في مرحلة التقهقر، حيث تباع فيها كل أنواع البضائع جنباً إلى جنبٍ. فاقترض الكلمة للإشارة إلى: الفوضى وغياب النظام. وصار كل وضعٍ فوضوي يوصم بأنه souk أي في غاية الخوَر والتسيّب.

وقد تساهم الخطابات السياسية الرسمية في مسارات التسليب، وهذا من قبيل ما يفعله البرلمانيون الفرنسيون في مداخلاتهم تحت قبة البرلمان. ومن ذلك أن يصف بعض النواب أعداءَهم بنعوت مثل "آية الله" أو "مُلا"، للدلالة على رجل ضيق الفكر متسلط. وهذا عين ما يفعله الصحافيون، ولا سيما حين يقترحون عناوين جذابة، إيغالاً في تحقير المناوئين، وإخراجهم في مظهر مُستهجن.

وهكذا فإنه إلى جانب الطبيعة اللسانية للتحوّل السلبي في دلالة ألفاظ لغةٍ ما، فإن مسار التسليب ينطلق من لاوعيٍ جمعي مناوئ للثقافة العربية، ينتج تمثلاتٍ يصبّ فيها الغرب شحناً دونية، ويركز فيها نبرة الاحتقار والتهكم. وهو ما يخفي نزعة تقارب العنصرية اللغوية، لأنها بالكلمات تَزدري الثقافة العربية، وتضخم المركزية الأوروبية.

على أنَّه ينبغي التنويه إلى أن الظاهرة موجود في الاتجاه المقابل، فاقتراضُ العربية لكلماتٍ أجنبية لا يخلو من تسليب معانيها، مثلما حصل في كلمة فَبْرَكة، من فعل Fabriquer (التصنيع) للدلالة على تصنيع الأخبار والكذب فيها، وهو ما يضعنا أمام مبحثٍ لا يخلو من التعقيد، ولكنه مثير للاهتمام.

المساهمون