التسريبات الرسمية في واشنطن: مكوِّن أصيل في عمر الإدارات

06 ابريل 2019
رافقت التسريبات إدارة ترامب منذ بداية عهده(جيم واطسون/فرانس برس)
+ الخط -
على الرغم من أن التسريبات إلى وسائل الإعلام من داخل الإدارة الأميركية والكونغرس، عادة متأصلة في واشنطن، و"صارت جزءاً من طبيعة المكان" كما قال الرئيس الأسبق رونالد ريغان، إلا أن إدارة الرئيس دونالد ترامب ضربت الرقم القياسي، سواء في الحجم أو في درجة حساسية التسريبات. وتُحرك التسريبات في الولايات المتحدة حوافز ودوافع مختلفة، سياسية وأحياناً شخصية، وهي تطاول السياسات والمواقف، الداخلية والخارجية من غير استثناء، بما في ذلك المعلومات والقضايا الأمنية الحساسة. وقد عرفتها كل الإدارات المتعاقبة، كما عرفها الكونغرس الذي يعتبر أحد مناجمها الرئيسية. ولم يتعذر عليهما وقفها وحسب، بل ازداد تدفقها مع تطور الإعلام، خصوصاً منذ رئاسة ريتشارد نيكسون في أواخر ستينيات القرن الماضي.

آخر هذه التسريبات كان الخميس الماضي، بتمرير معلومات حول ما يقوم به وزير العدل وليام بار، لتدوير زوايا تقرير المحقق الخاص عن التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية روبرت مولر. مصادر من فريق مولر ومعها مسؤولون من وزارة العدل على ما يبدو، سربوا إلى صحيفتي "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" ما يفيد بأن الخلاصة التي قدمها بار جاءت ملطّفة ولا تعكس ما انتهى إليه التقرير من نتيجة مؤذية للرئيس. وأعطى ذلك شحنة من الزخم للاستدعاء الإلزامي، الذي صدر الأربعاء عن لجنة العدل في مجلس النواب، والذي يطالب وزارة العدل بإيداعها تقرير مولر بنصه الكامل مع مستنداته في أقرب وقت. لكن إصرار بار على "تنقيح" النص قبل تسليمه يفتح الباب واسعاً لمعركة قضائية للبت بالموضوع. هذا الكشف السري عن حصيلة تقرير من هذا النوع كان يُفترض أن يبقى طي الكتمان لغاية حسم موضوع الإفراج عنه، أشعل الأزمة المحتدمة أصلاً بين وزير العدل، الذي يدعمه البيت الأبيض والجمهوريون، وبين الديمقراطيين خصوم الرئيس، الأمر الذي سلّط الأضواء على موضوع التسريبات ودورها في الصراع السياسي الدائر وصياغة القرار في واشنطن.

ورافقت التسريبات إدارة ترامب وبالذات البيت الأبيض، منذ بداية العهد الرئاسي الحالي. فبعد أقل من أسبوع على مجيئها، بدأت المعلومات تَرشَح من مجلس الأمن القومي للصحف. وأول تمرير جرى حول موضوع التعامل مع "المقاتلين الأعداء"، ثم كرّت السبّحة من مكتب مدير عام (كبير موظفي) البيت الأبيض إلى دائرة الاتصالات التي اشتهرت بتسريب الأخبار عن اشتباكاتها الداخلية، إلى مكاتب مستشاري الرئيس، خصوصاً ستيف بانون وتسريباته عن صهر الرئيس جاريد كوشنر، مع ما رافق ذلك من تصفية حسابات ودسائس وخصومات أدت إلى موجة إقالات واستقالات، وسط فوضى عارمة ما زالت مُستوطِنة في البيت الأبيض حتى اللحظة وإن بصورة أقل. وكثيراً ما تردد بأن ترامب "يرتاح لهذه الأجواء" التي اعتادها خلال حياته كرجل أعمال "إذ كان يتعمد نشر الشائعات عن نفسه" والتي بدا أنها كانت استراتيجية ناجحة في الترويج لنفسه وإرغام الإعلام على تداول أخباره حتى ولو كان بذلك هجوماً عليه ونقداً له.

وثمة من يعزو طوفان التسريبات إلى "تفرد الرئيس" وإهماله لمشورات مساعديه، ما ساهم في خلق حالة تمرد داخلي مكتوم على رئاسته. ويضيف عدد من أصحاب الخبرة من المسؤولين السابقين، أن تمسك ترامب بشعار "الصحافة عدو الشعب" وإدمانه على استخدام "تويتر"، ساهما في تكوين حالة من النفور والرفض، وجدت تعبيراتها في تزويد الإعلام بالخفايا والمعلومات المحرجة والمربكة عن الإدارة وسياساتها. لكن مسألة التسريب ليست حكراً على إدارة ترامب، فقد عانت منه إدارات الجمهوريين والديمقراطيين، ولو أن الأولى كان نصيبها أوفر، ربما لأن الغالبية البيروقراطية في الجهاز الحكومي المطلع بحكم مهماته الوظيفية على التقارير والمعلومات تنتمي إلى الخندق الليبرالي المناوئ للجمهوريين، حسب ما هو معروف. أو ربما لأن تركيبة الإدارة تكون غير متماسكة وبوصلتها مختلة، كما كانت عليه حال إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون في بداياتها. وكذلك أنهكت التسريبات رئاسة ريغان الذي اعترف بعجزه عن معالجتها. وهكذا كانت الحال، بدرجة أو بأخرى، خلال إدارات جورج بوش الأول ونجله وباراك أوباما. غير أن رئاسة ترامب تفوّقت في هذا المجال لأسباب عدة، أبرزها "أنها في حرب مع نفسها"، كما وصفها ستيفن هيسّ من مؤسسة بروكينغز للدراسات في واشنطن. حرب تفسر اضطراب القرار، الخارجي بشكل خاص، كما يظهر الآن في تهديد ترامب بإغلاق الحدود مع المكسيك ثم تراجعه بشكل مرتبك. وهي حالة مرشحة للتفاقم مع احتدام المعركة حول تقرير مولر، الذي لم تفلح تبرئته الضبابية للرئيس في إزالة سحابة الأزمة وإقفال ملفه.