لم تكن الشابة السعودية سارة تتوقع أن الطيبة التي تعامل بها مدير إحدى الشركات الخاصة معها، هي محاولة للتحرش بها، إذ اعتقدت أن طلبه الاجتماع بها شخصيا، يأتي لتقديم النصائح المهنية، ولكن مع تكرار الاجتماعات والاتصالات من المدير على هاتفها الجوال، تطور الأمر إلى تحرش واضح، وتهديد لها بالاستمرار في الوظيفة والتقدم فيها.
كانت الصدمة كبيرة، تقول سارة، التي لجأت إلى والدتها، ولكن بدلا من أن تجد النصح لديها، واجهتها بوابل من الانتقادات، محملة إياها مسؤولية ما حدث، ومشددة عليها بألا تخبر أحدا. لم تستسلم الشابة السعودية، كما قالت لـ"العربي الجديد"، إذ اتجهت إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنهم طلبوا منها استدراج المدير للقبض عليه متلبسا، وهو ما رفضته، لأنه غير مقبول، إذ يشوه سمعتها أمام زملاء في العمل، وتضيف: "لجأت إلى هيئة حقوق الإنسان، ولكنهم طلبوا مني إملاء أكثر من مائة ورقة وإعداد ملف ضخم لمتابعة الحالة، عندها أيقنت أنني لن أستطيع الحصول على حقي، فاستقلت".
اقرأ أيضا: اليسار في السعودية.. ندرة المراجع وغياب التوثيق
تصاعد الظاهرة
حالة سارة ليست نادرة في السعودية، إذ يغيب عن المملكة، قانون واضح يجرم ويحدد التحرش، ما أغرى كثيرا من الشباب، خاصة مع تعالي الأصوات التي تحمل المرأة مسؤولية التحرش بها، بحجة أنها لم تكن محتشمة.
وثّق معد التحقيق، العديد من الحالات والشكاوى، في أحدها تحرش سائق خاص بابنة رب عمله، وعندما أبلغت مديرة المدرسة الأم بالحالة، طلبت منها ألا تخبر أباها كي لا يبعد السائق وتتعطل مصالحها، "هكذا بكل برود"، تقول المديرة لـ"العربي الجديد" متابعة:"لم أهتم بكلامها وأبلغت الجهات المعنية، وللأسف تصلنا عشرات الحالات سنويا، ويكاد يكون تحرش السائقين بالفتيات منتشرا بقوة".
قبل نحو عشرة أشهر، ضج المجتمع السعودي بحادثة تحرش في مجمع الظهران في مدينة الخبر شرقي السعودية، وتم القبض سريعا على مجموعة من الشباب تحرشوا بفتاتين، بعد تداول مقطع مصور يوثق الحادث، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن ماذا حدث بعدها؟ تجيب الناشطة الحقوقية ريم الإبراهيم عن السؤال السابق بالقول:"لم تكن حادثة الظهران مول، الأولى، وبالتأكيد لم تكن الأخيرة، حدثت بعدها حالات تحرش في الخبر مرة أخرى في مجمع الراشد، وأكثر من حالة في كل من الدمام والرياض وجدّة والطائف، كان أشهرها التي وقعت في كورنيش جدة قبل ثلاثة أشهر، وفيها تحرش أكثر من عشرين شابا بفتاتين كانتا تتنزهان على الشاطئ".
في كل مرة تنتشر مقاطع فيديو لشباب يتحرشون بفتيات تتعالى الأصوات التي تطالب بسرعة سن (قانون التحرش)، الذي لا يبدو أنه سيصدر قريبا، وفي بعض الحالات نال المتحرشون نصيبهم من الضرب على يد الفتيات، ولكن ما يريده الناشطون، هو قوانين رادعة تضع حدا لهذه الظاهرة المتزايدة في المجتمع السعودي المحافظ.
اقرأ أيضا: "التهمة كتاب4".. القائمة الكاملة للعناوين الممنوعة في السعودية
مطالبات قديمة
منذ فترة طويلة، يطالب الحقوقيون والقانونيون السعوديون، بسن قوانين لمكافحة التحرش الجنسي في الأماكن العامة، وفرض عقوبات صارمة على المتحرشين، ومنذ عام 2008 بدأ مجلس الشورى السعودي في دراسة القانون، ولكن بعد نحو عام من الدراسة تم سحبه من جدول الأعمال من دون إبداء الأسباب.
ويؤكد نشطاء سعوديون، أن قصة مسلسل (سيلفي) الذي عرض على قناة mbc في شهر رمضان والجدل الذي أثارته إحدى الحلقات حول سنّ قانون التحرش، وأنه يشرع للاختلاط وخروج المرأة من بيتها، لم تكن مجرد دراما كوميدية، بل كانت عرضا لنقاش حقيقي دار تحت قبة المجلس، فما زال تيار ديني قوي يعتقد أن وجود قانون للتحرش سيجيز الاختلاط، الذي يرونه أشد خطورة من التحرش ذاته، وتقود الداعية رقية المحارب، وأيضا الداعية الدكتور عبدالله الداود التيار الديني المعارض للقانون، وهما أكدا ذلك علانية، أكثر من مرة، كما يؤكد ناشط حقوقي سعودي.
يكشف عضو في مجلس الشورى السعودي (رفض ذكر اسمه)، لـ"العربي الجديد" أن "القانون المقترح كان سيعتبر أي سلوك بهدف التحرش سواء كان قولا أو عملا أو حتى إشارة أو اتخذ موقفًا، أمرا موجبا للعقاب، إذا كان الهدف منه الإيقاع الجنسي بالطرف الآخر، أو إهانته أو استفزازه أو تحقيره بسبب جنسه أو مجرد خدش حياء الأذن أو خدش حياء العين، غير أن بعض المنتمين للتيار المتشدد اعتبروا أن في هذا القانون ما قد يشرع الاختلاط، فتم سحب المشروع قبل التصويت عليه".
أدى سحب مشروع القانون من مجلس الشورى، إلى صدمة كبيرة بين الحقوقيين الذين اتهموا المجلس بتعمد تجاهل القضايا الحقيقية التي تواجه المجتمع، وتؤكد الناشطة الحقوقية والأستاذة في جامعة الملك سعود في الرياض الدكتور موضي العليان أن موقف مجلس الشورى كان مخيبا للآمال، وتقول لـ"العربي الجديد":"المشكلة أن البعض ينظر للتحرش على أنه جسدي فقط، بينما يتم إغفال أشكاله المتعددة الأخرى، وأخطرها الجانب النفسي"، وتضيف: "من المهم جداً إيجاد هذه القوانين، خاصة في بيئة العمل المختلط، حيث تحتاج للحماية بشكل أكثر من الأسلوب التقليدي الذي يعتمد على شهامة الرجل وحمايته".
يوما بعد يوم تتزايد حالات التحرش، وفي كل مرة يخضع العقاب لتقدير القاضي الذي قد يراها جريمة كبيرة، فيعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 12 عاما كما حدث قبل عشر سنوات عندما تحرش مراهقون بفتيات في حديقة النهضة بالرياض، أو يكتفي القاضي بالسجن شهرا، كما حدث مع المتحرشين بفتيات كورنيش جدة، الفارق الكبير هو ما يجعل القانونيين يصرون على إنجاز القانون، ويؤكد المستشار القانوني أحمد الراشد أنه لا يمكن القبول بترك الأمور لتقدير القضاة في كل مرة، ويقول لـ"العربي الجديد":"لا يمكن ترك الأمور بهذا الشكل، نحن الدولة الوحيدة في العالم التي لا يوجد فيها قانون للتحرش"، وبحسب الراشد يتم معاقبة المتحرِّشين بعقوبةٍ تعزيريةٍ كحق عام بناء على تقدير القاضي، والذي ربما يراعي فيه التشديد أو التخفيف بناءً على تقديره الخاص، ويضيف: "من الضروري أن يكون هناك نظام واضح ومحدد للمتحرِّشين بصرامة، فالحوادث باتت كثيرة وأكبر من أن يتم السكوت عنها".
اقرأ أيضا: المناطق النائية بالسعودية.. بحث لا يتوقف عن الطبيب
ضاع وسط الأوراق
بعد أكثر من ثماني سنوات من دراسة مشروع القانون، ضاع بين أوراق مجلس الشورى، ووزارة العدل، وهيئات حقوق الإنسان، ويؤكد المتحدث باسم وزارة العدل فهد البكران، أن العدل ليست جهة تشريعية مخولة بسن أو المطالبة بقوانين لمكافحة التحرش الجنسي، متابعا أن تلك مهمة تعنى بها جهات أخرى مثل مجلس الشورى وهيئة الخبراء، بينما المجالس المعنية لا تريد أن تخطو الخطوة الأولى، خوفا من التيار الديني المتشدد.
هذا الأمر ضاعف من عمليات التحرش، فالحالات التي تظهر في مقاطع الفيديو ليست سوى رأس جبل الجليد، إذ يؤكد تقرير حقوقي رسمي أن حالات التحرش بالنساء أو حتى الأطفال الصغار في العامين الماضيين كانت أكثر من أربعة آلاف حالة، وتكشف جمعية حقوق الإنسان السعودي في تقريرها عن التحرش داخل الأسرة، أن الظاهرة بدأت تطفو على السطح من خلال قضايا كثيرة تم تسجيلها مؤخراً في الجهات المختصة عن حالة تحرش أسري، ويضيف التقرير:"أكثر أنواع التحرش انتشاراً هو تحرش الأقارب بسبب الأمان الذي يحظون به داخل الأسرة"، موضحا أن حالات التحرش داخل نطاق العمل عالية جداً من دون أي رادع، ويصل التحرش بالأطفال الصغار حد الاختطاف والقتل في كثير من الحالات، ويؤكد المختص في القانون الدكتور سامي اليوسف أن نسبة التحرش في المجتمع السعودي كبيرة جدا، ولو أخذنا في الاعتبار التحرش اللفظي، لتجاوز العدد آلاف الحالات سنويا.
ويقول :"التحرش ليس جسديا فقط، بل حتى الكلام الجارح يعتبر تحرشا، وتعاقب عليه معظم القوانين الغربية، ولو أخذنا بهذا في الاعتبار محليا لوجدنا أننا أمام آلاف من الحالات سنويا، فمن النادر أن تمر سيدة جميلة أمام مجموعة من الشباب من دون أن يتحرشوا بها لفظيا على الأقل، ولكن التيار الديني يرى أن هذا الأمر طبيعي، ويلقون باللائمة في كل مرة على النساء، وأنهن كن متبرجات".
ما يدعم هذا الاعتقاد، هو أنه في معظم حالات التحرش التي يتم تصويرها بالهواتف الجوالة، يتجمع العشرات من الشباب على الفتاة، ويشاهدونها تتعرض للتحرش، وتقوم بالصراخ من دون أن يهب أحد لنجدتها، وتستغرب الدكتور أسماء المقرن من ذلك، وتقول:"كأن الوضع طبيعي"، وتضيف في حديثها لـ"العربي الجديد":"الكثير من الفتيات يتحرجن من الشكوى خوفاً من التصادم مع المجتمع أو اتهامها بإثارة المتحرش، فنحن أمام مجتمع يصر على وضع كل اللوم على المرأة، ويبرئ الرجل".
تشدد الدكتورة المقرن على أن النساء في السعودية يتعاملن مع التحرش بالصمت، ولا يتجرأن في الغالب على الإفصاح عن تعرضهن للتحرش، خوفا من الفضيحة ومن سياط المجتمع المتشدد، وتضيف:"مهما كانت ثقة الأهل في بناتهن، فالأصوات ستتعالى بأنها لو لم تعطِ الرجل بعض الاهتمام لما تجرأ وتحرش بها، الخوف من الفضيحة ومعاقبة الوالدين وحرمانها من الخروج من المنزل أو مطالبتهم لها بترك عملها يجبرها على الصمت، وهذا ما يشجع الكثير من المتحرشين على التمادي".
اقرأ أيضا: تزييف الشهادات الجامعية.. تجارة الوجاهة الاجتماعية في السعودية
ممارسات عادية
"ربما لا يعرف كثير من الشباب أن اللفظ الجارح يعتبر تحرشا، الثقافة المعدومة لديهم جعلتهم يعتقدون أن وجود امرأة أمامهم وحدها يجيز لهم التلفظ عليها"، هكذا تحلل الدكتورة في علم الاجتماع سمية السقاف الوضع، وعلى الأرجح هي محقة، كما وثق معد التحقيق، عبر معالجة إحدى حلقات برنامج "الثامنة مع داود"، إذ حاول البرنامج رصد آراء مجموعة من الشباب حول التحرش الجنسي، في أحد الأسواق، ولكن مقدمة التقرير وأمام الكاميرا تعرضت لتحرش من أحد الشباب الذي قام بمغازلتها، لتقوم باستيقافه وتسأله عن سبب قيامه بذلك، ليحاول مجدداً التلطف معها بالكلام، وعندما أخبرته أنه بهذه الطريقة يتحرش بها، هرب من المكان سريعا.
تؤكد الدكتورة السقاف أن هذه الثقافة منتشرة بين الشباب، وفي الاتجاه ذاته تؤكد عضوة الجمعية السعودية لحقوق الإنسان الدكتورة سهيلة زين الدين حماد على أنه في كل عام تزداد الحاجة للقانون الذي سيحد من حالات التحرش، مستغربة من عدم النظر إليه بجدية على الرغم من تعدد الحالات، وتقول لـ"العربي الجديد":"وجود مثل هذا القانون سيحمي المرأة من التحرش الجنسي ليس في الأماكن العامة فقط، بل يجب أيضاً حمايتها في مكان عملها، وهذا هو الأهم، لأنه في مكان عملها قد يختلف الأمر، ناهيك عن التزامها الصمت خوفاً من الفضيحة ربما، أو من عدم وجود شهود وقت وقوع الحادث، لذلك يجب أن يُسن قانون واضح وصريح، بعقوبات صارمة تردع المتحرشين في أي مكان تتعرض فيه المرأة للتحرش الجنسي"، وتشدد الدكتورة المختصة في الشريعة الإسلامية على أن المجتمع والخطاب الديني، دأب على تحميل المرأة مسؤولية التحرش بها، وتضيف:"في كل مرة يبرئون الرجل، ويوقعون اللوم الأكبر على المرأة فقط، من خلال لباسها وتبرجها وما إلى ذلك، مع أن الرجل هو المأمور بغض البصر".
ويؤيد تقرير بثته وكالة أنباء رويترز، ما ذهبت إليه الدكتورة بعد أن أكد أن السعودية تحتل المركز 24 عالميا في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل، وبيّنت الدراسة، التي شملت 12 ألف موظفة من دول المسح، أن 16% من النساء العاملات في السعودية، تعرضن للتحرش الجنسي من المسؤولين في العمل. وأظهرت الدراسة أن نسبة التحرش في السعودية، أعلى بكثير منها في الولايات المتحدة وفرنسا والسويد وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأستراليا وإسبانيا، وهي أرقام قد تدفع القائمين على سن القوانين في البلاد إلى إخراج قانون التحرش من الأدراج، ونفض الغبار عنه.