31 أكتوبر 2024
التجانسان.. الوطني والطائفي
إذا حدّدنا الجماعة الدينية بأنها كتلة بشرية يجمعها انتماء ديني متوارث يدخل، على الأقل، ضمن تعريف الآخرين لها، هذا على افتراض أن الانتماء الديني لا يدخل في تعريف الجماعة لذاتها، وهو افتراض تعسّفي كما يبدو لنا؛ نقول إذا كان هذا هو تعريف الجماعة الدينية، فهل يجوز التفكير في ارتكاس خاص للجماعات الدينية على حدثٍ سياسيٍّ ما؟ أو هل للجماعة الدينية، بهذا الفهم، ظلال سياسية تسمح لنا بتناولها سياسياً في لحظة ما؟ أو بقول آخر، إلى أي حد يمكن اعتبار الجماعة الدينية جماعة سياسية؟
لنأخذ العلويين السوريين مثالا عن الجماعة الدينية. من يحاول البحث في ارتكاس "خاص" لهم إزاء الثورة التي اندلعت في سورية، في مارس/ آذار 2011، يجد نفسه في مواجهة نظرتين تتنازعان الأحقية عبر النفي المتبادل.
النظرة "الوطنية" التي تستنكر تماماً الحديث السياسي عن وسط علوي أو بيئة علوية أو طائفة علوية، باعتبار أن في ذلك تجاوزاً وتفتيتاً للواقع "الوطني" الذي يقول إن العلويين تتوزعهم المواقف السياسية، وتخترقهم الاتجاهات الفكرية، بوصفهم جزءا من الشعب السوري، وإن تخصيص الحديث عن العلويين أو غيرهم يصب في خانة التحليل الطائفي والتفتيت الوطني، وتشويه حقيقة دوافع الحراك والصراع وآلياتهما في سورية.
والنظرة "الواقعية" التي ترى في العلويين طائفة متجانسة سياسياً، وأقرب ما تكون إلى تنظيم غير معلن، وإنها اصطفت دائماً مع النظام الأسدي، ولا سيما في حربه اليوم ضد "الشعب السوري"، عن دراية وتخطيط، لأنه نظامها، ولأنها طائفةُ تتمتع، في ظل هذا النظام، بامتيازات دون بقية الشعب السوري، وأن لها حظوة خاصة عند "الدولة"، وأن اللغة الوطنية لأصحاب النظرة الأولى ما هي إلا كذب ودجل لإخفاء امتيازات العلويين وقمع المغلوبين (السنّة) بقبضة "وطنية".
من الطريف ملاحظة أنه لا علاقة لخط الفصل بين النظرتين بالخط الفاصل بين الثورة والنظام. أي أن أياً من النظرتين لا تنطوي على معنىً سياسي بذاتها، فأصحابهما موزعون هنا وهناك. هناك موالون للنظام ومعارضون له يحاججون معاً بقوة ضد الحديث عن "العلويين" أو غيرهم من الجماعات الدينية، كجماعة لها تمايز سياسي ما. هذه هي، على كل حال، النظرة التي يتبنّاها النظام السوري رسمياً طوال عمره. وهناك موالون للنظام يحاججون لصالح النظرة الأخرى التي تبيح الحديث عن "تمايز علوي"، ولكن بمضمون وطني، يصل إلى حد القول إن العلويين هم أكثر من يدافع عن الوطنية في سورية، ضد جحافل التكفيريين، وإن شبابهم يموتون دفاعاً عن سورية في كل مناطقها، فيما يتهرب أو يهرب الآخرون. هذه نظرة شعبية أو تحتية غير رسمية وغير معلنة، لكنها أكثر فاعلية وأكثف حضوراً. الكلام عن "تمايز علوي" موجود على ضفتي الصراع، الفارق بين النظرة الموالية والمعارضة هو مضمون هذا التمايز، بين الشجب والتمجيد.
افتراض التجانس هو القاسم المشترك بين النظرتين، التجانس الوطني مقابل التجانس الطائفي. أصحاب النظرة "الوطنية" لا يعترفون بالتمايزات الطائفية السياسية للشعب السوري، أو بدقة أكبر، لا يوافقون على أن الجماعات الدينية ضمن الشعب السوري، يمكن أن يكون لها انحيازات سياسية معينة بناء على انتماءاتها الدينية، أو أن، وهو الشيء نفسه، انتماءاتها الدينية لا تجعلها عرضةً لنبذ أو تفضيل يدفعها باتجاه انحيازات سياسية معينة.
في الواقع، لا ينطلق أصحاب هذه النظرة من موقع واحد. يتبنى النظام السوري هذه النظرة التي تعني، من موقعه، أن الدولة عادلة تجاه "مواطنيها" كافة، ولا يوجد ما يغذّي انحيازات سياسية خاصة، بناء على انتماءات دينية إلا نشاط التنظيمات السياسية الطائفية. حين يتكلم بشار الأسد عن تجانس وطني، فإنه ينطلق من موقع المسيطر الذي يدرك أن سيطرته لا تقوم على شرعية سياسية، وتنقصها دائماً آلية متفق عليها اجتماعياً لإنتاج الشرعية السياسية. ويريد، لذلك، أن يرمي غطاءً "وطنياً" على هذا. يريد أن يبدو الصراع في سورية بين الوطنية السورية "المنسجمة" والتطرّف الإسلامي السني "الشاذ". على هذا النحو، يشتت النظر عن موضوع سيطرته "الأبدية" على الدولة السورية وإغلاقه الطريق في وجه أي اتفاق اجتماعي سوري على آلية متواترة لإنتاج الشرعية السياسية.
يتكلم المعارضون العلمانيون لنظام الأسد، بدورهم، عن تجانس وطني يعلو عن الفروق الدينية والمذهبية، وهم ينطلقون من مبدأ ماركسي في الشكل، يرى في الواقع الاقتصادي للجماعات المرجع الأول في تحديد مواقفها وانحيازاتها، وينطلق من حرصٍ على وحدة الشعب السوري وخشية على تفتته طائفياً. غير أن هذه النظرة المعارضة تختلف، اختلافاً مهماً، عن نظرة التجانس الوطني الأسدية، فهي ترى أن التيارات السياسية تخترق الشعب السوري بمجمله، من دون تأثير للانقسامات الدينينة أو المذهبية، فيما التجانس الوطني الأسدي يصوّر الشعب
السوري تيارا واحدا وراء النظام. التجانس الوطني الأسدي أحادي البعد، ويتجسّد في الولاء للنظام، فيما التجانس المعارض له لا ينكر وجود التيارات السياسية المعارضة والموالية، لكنه يكتفي بإنكار أي بعد سياسي للجماعات الدينية، وهذا هو القاسم المشترك بين الطرفين.
أما أصحاب النظرة "الواقعية"، فإنهم ينكرون التجانس الوطني المذكور سابقاً لصالح افتراض تجانس طائفي لا يعترف بالتمايزات السياسية ضمن الطائفة، أو يعتبرها دون مستوى التأثير على تجانس الطائفة. الطائفة تتجانس أكثر، وتبتعد عن التجانس الوطني أكثر. افتراض التجانس الطائفي ينطوي على افتراض التفتّت الوطني. طوائف متجانسة، شعب مفتّت. هذا على العكس من نظرة التجانس الوطني، حيث يمسح التجانس الوطني المفترض (والمفروض، كما يمكن القول) كل تجانس سياسي طائفي ممكن.
في النظرة "الواقعية" المعارضة، تبدو الطائفة العلوية متجانسةً حيال الموقف السياسي من النظام، وتبدو معادية للشعب السوري ومجرمة في حقه... إلخ. ومن المنظور "الواقعي" الموالي، تبدو متجانسة أيضاً، لكنها متجانسة في وطنيتها وعلمانيتها وانفتاحها وحرصها على الدولة والوطن ومحاربتها التطرّف الديني... إلخ.
التجانس الطائفي الذي يتصوره "الواقعيون" يجعل الصراع السياسي الوحيد الممكن هو الصراع الطائفي، فيما التجانس الوطني، بنسخته الأسدية، يجعل من أي معارضة خروجاً عن "الوطنية" وتستوجب الاستئصال لاستعادة التجانس. يلفت، في هذا السياق، تحذير أحد كبار ضباط النظام السوري اللاجئين السوريين من العودة، ما يضمر قناعته "نظامية" بأن اللاجئين معارضون، وأن عودتهم تخلّ في التجانس بالتالي.
يبقى التجانس الوطني، بحسب التصور المعارض الذي ينكر أي تناول سياسي للجماعات الدينية، باعتباره انحرافاً طائفياً. ينطوي هذا التصور، في الواقع، على قدر غير قليل من "الدوغمائية"، وإنكار التوسطات اللانهائية بين الوضع المعاشي للفرد والجماعات ومواقفها السياسية. سوف تعجز مثل هذه النظرة عن تفسير وقوف فقراء علويين مع نظام الأسد الذي لم يكسبوا منه سوى الفقر، ووقوف أثرياء من السنّة ضد النظام الذي جمعوا ثروتهم في ظله وبواسطته.
لنأخذ العلويين السوريين مثالا عن الجماعة الدينية. من يحاول البحث في ارتكاس "خاص" لهم إزاء الثورة التي اندلعت في سورية، في مارس/ آذار 2011، يجد نفسه في مواجهة نظرتين تتنازعان الأحقية عبر النفي المتبادل.
النظرة "الوطنية" التي تستنكر تماماً الحديث السياسي عن وسط علوي أو بيئة علوية أو طائفة علوية، باعتبار أن في ذلك تجاوزاً وتفتيتاً للواقع "الوطني" الذي يقول إن العلويين تتوزعهم المواقف السياسية، وتخترقهم الاتجاهات الفكرية، بوصفهم جزءا من الشعب السوري، وإن تخصيص الحديث عن العلويين أو غيرهم يصب في خانة التحليل الطائفي والتفتيت الوطني، وتشويه حقيقة دوافع الحراك والصراع وآلياتهما في سورية.
والنظرة "الواقعية" التي ترى في العلويين طائفة متجانسة سياسياً، وأقرب ما تكون إلى تنظيم غير معلن، وإنها اصطفت دائماً مع النظام الأسدي، ولا سيما في حربه اليوم ضد "الشعب السوري"، عن دراية وتخطيط، لأنه نظامها، ولأنها طائفةُ تتمتع، في ظل هذا النظام، بامتيازات دون بقية الشعب السوري، وأن لها حظوة خاصة عند "الدولة"، وأن اللغة الوطنية لأصحاب النظرة الأولى ما هي إلا كذب ودجل لإخفاء امتيازات العلويين وقمع المغلوبين (السنّة) بقبضة "وطنية".
من الطريف ملاحظة أنه لا علاقة لخط الفصل بين النظرتين بالخط الفاصل بين الثورة والنظام. أي أن أياً من النظرتين لا تنطوي على معنىً سياسي بذاتها، فأصحابهما موزعون هنا وهناك. هناك موالون للنظام ومعارضون له يحاججون معاً بقوة ضد الحديث عن "العلويين" أو غيرهم من الجماعات الدينية، كجماعة لها تمايز سياسي ما. هذه هي، على كل حال، النظرة التي يتبنّاها النظام السوري رسمياً طوال عمره. وهناك موالون للنظام يحاججون لصالح النظرة الأخرى التي تبيح الحديث عن "تمايز علوي"، ولكن بمضمون وطني، يصل إلى حد القول إن العلويين هم أكثر من يدافع عن الوطنية في سورية، ضد جحافل التكفيريين، وإن شبابهم يموتون دفاعاً عن سورية في كل مناطقها، فيما يتهرب أو يهرب الآخرون. هذه نظرة شعبية أو تحتية غير رسمية وغير معلنة، لكنها أكثر فاعلية وأكثف حضوراً. الكلام عن "تمايز علوي" موجود على ضفتي الصراع، الفارق بين النظرة الموالية والمعارضة هو مضمون هذا التمايز، بين الشجب والتمجيد.
افتراض التجانس هو القاسم المشترك بين النظرتين، التجانس الوطني مقابل التجانس الطائفي. أصحاب النظرة "الوطنية" لا يعترفون بالتمايزات الطائفية السياسية للشعب السوري، أو بدقة أكبر، لا يوافقون على أن الجماعات الدينية ضمن الشعب السوري، يمكن أن يكون لها انحيازات سياسية معينة بناء على انتماءاتها الدينية، أو أن، وهو الشيء نفسه، انتماءاتها الدينية لا تجعلها عرضةً لنبذ أو تفضيل يدفعها باتجاه انحيازات سياسية معينة.
في الواقع، لا ينطلق أصحاب هذه النظرة من موقع واحد. يتبنى النظام السوري هذه النظرة التي تعني، من موقعه، أن الدولة عادلة تجاه "مواطنيها" كافة، ولا يوجد ما يغذّي انحيازات سياسية خاصة، بناء على انتماءات دينية إلا نشاط التنظيمات السياسية الطائفية. حين يتكلم بشار الأسد عن تجانس وطني، فإنه ينطلق من موقع المسيطر الذي يدرك أن سيطرته لا تقوم على شرعية سياسية، وتنقصها دائماً آلية متفق عليها اجتماعياً لإنتاج الشرعية السياسية. ويريد، لذلك، أن يرمي غطاءً "وطنياً" على هذا. يريد أن يبدو الصراع في سورية بين الوطنية السورية "المنسجمة" والتطرّف الإسلامي السني "الشاذ". على هذا النحو، يشتت النظر عن موضوع سيطرته "الأبدية" على الدولة السورية وإغلاقه الطريق في وجه أي اتفاق اجتماعي سوري على آلية متواترة لإنتاج الشرعية السياسية.
يتكلم المعارضون العلمانيون لنظام الأسد، بدورهم، عن تجانس وطني يعلو عن الفروق الدينية والمذهبية، وهم ينطلقون من مبدأ ماركسي في الشكل، يرى في الواقع الاقتصادي للجماعات المرجع الأول في تحديد مواقفها وانحيازاتها، وينطلق من حرصٍ على وحدة الشعب السوري وخشية على تفتته طائفياً. غير أن هذه النظرة المعارضة تختلف، اختلافاً مهماً، عن نظرة التجانس الوطني الأسدية، فهي ترى أن التيارات السياسية تخترق الشعب السوري بمجمله، من دون تأثير للانقسامات الدينينة أو المذهبية، فيما التجانس الوطني الأسدي يصوّر الشعب
أما أصحاب النظرة "الواقعية"، فإنهم ينكرون التجانس الوطني المذكور سابقاً لصالح افتراض تجانس طائفي لا يعترف بالتمايزات السياسية ضمن الطائفة، أو يعتبرها دون مستوى التأثير على تجانس الطائفة. الطائفة تتجانس أكثر، وتبتعد عن التجانس الوطني أكثر. افتراض التجانس الطائفي ينطوي على افتراض التفتّت الوطني. طوائف متجانسة، شعب مفتّت. هذا على العكس من نظرة التجانس الوطني، حيث يمسح التجانس الوطني المفترض (والمفروض، كما يمكن القول) كل تجانس سياسي طائفي ممكن.
في النظرة "الواقعية" المعارضة، تبدو الطائفة العلوية متجانسةً حيال الموقف السياسي من النظام، وتبدو معادية للشعب السوري ومجرمة في حقه... إلخ. ومن المنظور "الواقعي" الموالي، تبدو متجانسة أيضاً، لكنها متجانسة في وطنيتها وعلمانيتها وانفتاحها وحرصها على الدولة والوطن ومحاربتها التطرّف الديني... إلخ.
التجانس الطائفي الذي يتصوره "الواقعيون" يجعل الصراع السياسي الوحيد الممكن هو الصراع الطائفي، فيما التجانس الوطني، بنسخته الأسدية، يجعل من أي معارضة خروجاً عن "الوطنية" وتستوجب الاستئصال لاستعادة التجانس. يلفت، في هذا السياق، تحذير أحد كبار ضباط النظام السوري اللاجئين السوريين من العودة، ما يضمر قناعته "نظامية" بأن اللاجئين معارضون، وأن عودتهم تخلّ في التجانس بالتالي.
يبقى التجانس الوطني، بحسب التصور المعارض الذي ينكر أي تناول سياسي للجماعات الدينية، باعتباره انحرافاً طائفياً. ينطوي هذا التصور، في الواقع، على قدر غير قليل من "الدوغمائية"، وإنكار التوسطات اللانهائية بين الوضع المعاشي للفرد والجماعات ومواقفها السياسية. سوف تعجز مثل هذه النظرة عن تفسير وقوف فقراء علويين مع نظام الأسد الذي لم يكسبوا منه سوى الفقر، ووقوف أثرياء من السنّة ضد النظام الذي جمعوا ثروتهم في ظله وبواسطته.