لا يمر تاريخ 13 فبراير/شباط في الجزائر من دون أن يستدعي الجزائريون تلك المشاهد المرعبة في منطقة رقان واينكر في ولاية أدرار في عمق الصحراء الجزائرية في العام 1960، حين أجرت فرنسا التجارب النووية التي عُرفت حينها باليربوع الأزرق، وما زالت آثار الإشعاعات النووية والبراميل المشعّة وبقايا المنشآت التي نُفذت فيها التجربة، شاهدة على الجرم الاستعماري الكبير.
عائلة كشاوي في مدينة رقان ما زالت تتوارث الألم والمرض، فعدد من أفراد العائلة أصيبوا بتشوهات خُلقية نتيجة الإشعاعات النووية في المنطقة. ويؤكد عبد القادر كشاوي في لقاء مع "العربي الجديد"، خلال حضوره ندوة نُظّمت في العاصمة الجزائرية حول التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، أن خمسة أفراد من عائلته مصابون بتشوّهات خلقية وأمراض نتيجة الإشعاعات النووية في منطقة رقان.
العائلة تقيم في منطقة بعيدة عن منطقة التجارب النووية والمغلقة من قِبل السلطات الجزائرية، لكن الغبار المتطاير والمتنقل بسبب العواصف الرملية في المنطقة الصحراوية، نقل معه الإشعاعات النووية، والتي لم تقتصر أضرارها على السكان فقط، لكنها انتقلت أيضاً إلى المزروعات والمياه والحيوانات. ولم تتمكن العائلة من تحصيل أي حق لمعالجة أفرادها، على الرغم من الملفات التي طرحتها على السلطات الجزائرية والفرنسية.
ليست عائلة كشاوي وحدها الضحية، فهناك آلاف الضحايا للمحرقة النووية الفرنسية في الجزائر. ففي الفترة الممتدة بين عام 1956 وحتى عام 1967، قامت السلطات الفرنسية بسلسلة تفجيرات نووية، وكانت الحكومة الفرنسية حينها تحاول اللحاق بالنادي النووي الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي ودول أخرى قد بلغته.
ويذكر المؤرخون المهتمون بالملف أن أكبر تفجير نووي، هو ذلك الذي نُفّذ في منطقة رقان في 13 فبراير/شباط عام 1960، والذي كان إيذاناً بتوصل فرنسا إلى امتلاك القنبلة النووية، ولو على حساب البشر والحجر والبيئة والأخلاق والأعراف الدولية، فلم تكن فرنسا مهتمة بما ستخلّفه هذه التجارب من إشعاعات نووية مدمرة على البيئة والسكان والمنطقة والمياه الجوفية، ذلك أن المسار الذي كانت تعرفه المواجهة المسلّحة مع جيش التحرير الجزائري، كانت تميل لصالح هذا الأخير، خصوصاً مع الدعم الدبلوماسي الدولي والضغط المتواصل على باريس للاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره.
لكن الجرم الاستعماري لا يتصل ببقايا التجارب النووية على البيئة وآثارها عليها فقط، لكن الجرم الأكبر كان ذلك الذي مسّ الإنسان في المنطقة، فعلى امتداد الخمسين سنة الماضية، ظلت أجيال وأجيال من الجزائريين تتوارث أمراضاً خطيرة كالسرطان والتشوّهات الخلقية.
وبحسب الأرقام والدراسات التي أجراها باحثون وخبراء على المنطقة، فإن أكثر من 42 ألف جزائري، بعضهم استُخدموا كفئران تجارب، كانوا ضحايا هذه التجارب المؤلمة. لكن وزارة الدفاع الفرنسية كشفت عن رقم رسمي يُقدّر بـ27 ألف ضحية، يشمل جميع قوات وموظفي الطاقة النووية الفرنسية وسكان المناطق المنكوبة في رقان وتمنراست جنوبي الجزائر.
إلا أن الأستاذ والباحث في الفيزياء النووية عبد الكاظم العبودي، وهيئة الدفاع عن الذاكرة في الجزائر، التي تعمل فيها المحامية فاطمة الزهراء بن براهم، تُقدّر مجموع الضحايا بـ60 ألف ضحية.
لا تختلف كل التقارير المتعلّقة بالتجارب النووية بالصحراء الجزائرية، لكن تجارب 13 فبراير/شباط 1960 ستبقى واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر.
وبرأي الباحث في الهندسة النووية عمار منصوري، فإن هذه التجارب "من أبشع جرائم الإبادة التي ارتكبتها فرنسا في سجلها الاستعماري في الجزائر"، مشيراً إلى أن الآثار السلبية لهذه الجرائم "لا تعني الجزائر وحدها، بل أفريقيا بكاملها، وخصوصاً الدول المجاورة لمنطقة الجنوب التي كانت حقلاً لهذه التجارب".
ولفت إلى أن أغلب الأمراض السرطانية المنتشرة في الجنوب الجزائري سببها "الانعكاسات والآثار السلبية لهذه التجارب"، الأمر الذي يستدعي مطالبة فرنسا بالإسراع في تحمل مسؤولياتها. واعتبر في هذا السياق أن فرنسا "مسؤولة أمام القانون الدولي وأمام الشعب الجزائري" عن ارتكابها هذه الجرائم.
من جهته، أشار أستاذ القانون في جامعة الجزائر محي الدين محمد، إلى أن التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر هي "أكثر خمس مرات على الأقل" من تفجيرات هيروشيما في اليابان، مشدداً على أن فرنسا "مُطالَبة بتعويض مادي ومعنوي عن هذه الأضرار التي لحقت بسكان الجنوب". وأكد أن فرنسا "لا يمكنها التنصّل من مسؤولياتها تجاه جرائمها الاستعمارية، لا سيما بعد توثيق جنرالات الجيش الفرنسي هذه الجرائم في مذكراتهم الشخصية".
لم تغادر فرنسا المنشآت التي جرت فيها التجارب النووية حتى عام 1967، وهي لم تترك للجزائريين الخرائط المتعلقة بتواجد النفايات النووية، كما لم تقم بأي عمل من شأنه تنظيف المنطقة من الإشعاعات النووية. ولم تتمكن الحكومة الجزائرية على امتداد نصف قرن، من انتزاع أي موقف سياسي أو قانوني من فرنسا، سواء بالاعتراف بجريمتها على الصعيد السياسي وبما يترتب من مسؤولياتها في الإشعاعات النووية التي ما زالت تحيط بمنطقة رقان واينكر، ولا من الناحية القانونية، بما يتيح للضحايا الحصول على التعويضات اللازمة.
وحتى إقرار باريس بحق الضحايا في الحصول على تعويضات وفقاً لقانون تم إقراره قبل سنتين، وضع شروطاً قاسية على الضحايا للحصول على تعويضات، بينها إثبات بالأدلة الطبية أن الامراض المتوارثة والعاهات التي تعرضوا لها، تتصل بمخلفات الإشعاعات النووية.
تطلب باريس أدلة تثبت إصابة الضحايا بعاهات نتيجة الإشعاعات النووية، لكن جريمتها الثابتة والمثبتة بالوثائق والأدلة التي ينطق بها البشر والحجر، لا تستدعي بحسبها أي اعتراف أو جهد لتنظيف المنطقة من بقايا الإشعاعات النووية، فلباريس منطق آخر غير ما يقتضيه المنطق.