البحث عن "عروبة عاقلة"

08 يوليو 2015
+ الخط -
أيام زمان، كانت العروبة "رومانسية". كنا نقول إنها "قدر محبب"، وإن القومية العربية "حب"، كان يكفي في حينها أن نقف فوق الأهرام، ونغني لبساتين الشام لتتحقق الوحدة التي لن يغلبها غلاب، وكنا نحيا ونموت على حلم إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وأينما تمطر الدنيا يكون خراجها لنا. والمواطن في إمبراطورية الحلم حريته حدها حرية الآخر، وحقوقه مصونة في العمل والتعبير والتغيير. كنا نعد أهلنا أن نوفر لهم الخام والطعام والتلفزيون الملون، وصحفا حرة وإذاعات تصل إلى كل بيت، (لم نكن نحلم بالكومبيوتر والإنترنت والهاتف النقال، ولم تكن تخطر هذه المخترعات في بالنا). يومها، كانت كلمة واحدة من أحمد سعيد تحشد جماهير لا حد لها في بغداد أو دمشق أو وهران أو أية مدينة عربية. ويومها أيضاً، كانت مساحة شعارات الأمة الواحدة التي تمتلئ بها الجدران أكبر من مساحة "فيسبوك" أو "تويتر". وعندما نغترب، كنا نرسل رسائل الحب وباقات الورد للوطن الأكبر، ليل نهار، ونخبر حبيباتنا أنهن والوطن يتقاسمن قلوبنا سواء بسواء.
حين وصل رجالنا إلى السلطة، وقبضوا على الحكم، اكتشفنا كم كنا صغاراً على الحياة، وكم حملت عقولنا من الأحلام الكاذبة والأوهام المخادعة، فقد سقطت تلك الهالة الرومانسية التي عرفناها في خيالاتنا، إذ أدركنا أننا أغرقنا أنفسنا في الرومانسيات، حتى أنكرتنا العروبة.
تجربتنا في سورية والعراق كشفت سوءاتنا، أدركنا حينها أن العروبة الرومانسية لا تمنع الحركات القومية من أن تتصارع فيما بينها إلا إذا امتلكت تلك الحركات حصانة القبول بالآخر، والإقرار بوجود التنوع. وقد شاهدنا كيف تصارعت أطراف "البعث" في سورية والعراق، وتحول هذا الصراع الى مكائد ومؤامرات متبادلة بين نظامي الحكم (العروبيين) في دمشق وبغداد، واكتشفنا أيضا أن العروبة الرومانسية لا تتمكن من أن تضمن عدم بروز نزعة التفرد والدكتاتورية لدى القيادات، ما لم تكن هذه قد تعلمت كيف تكبح أهواءها ونزواتها الشخصية، حين تكون السلطة بيدها.

لم تمنع العروبة الرومانسية في التجربة العراقية الحاكم من أن يغزو بلداً تجمعنا بأهله روابط الحسب والنسب، على وقع وهم العيش في عصر "بسمارك"، كما لم تمنع صنوه في التجربة السورية من أن يستأثر بالحكم، ويحوله إلى إرث عائلي، يضمنه لأبنائه وأحفاده عشرات السنين. علمتنا التجربتان معا أن المعارك التي خضناها كانت دفاعا عن "الكرسي" الموشح بالذهب، وليس دفاعاً عن العروبة، وعن أهلها الذين دفعوا ثمن تلك المعارك دماً ودموعاً.
هكذا أدركتنا الحكمة، ونحن في آخر العمر، وبدأنا نهجر "العروبة الرومانسية"، ونحملها أخطاءنا وخطايانا التي لو لم نقترفها لما دخلنا عصر الاحتلال ودويلات الطوائف. وها نحن نبدأ من جديد رحلة الألف ميل، بحثا عن بديل يعيد لنا هويتنا الضائعة التي تستند على عروبة جديدة، تفك نفسها عن نزعات الاستبداد والدكتاتورية، وتضمن حقوق الإنسان، وتتعلم الديمقراطية، وتحترم التنوع والاختلاف، نريد السفر "من العروبة إلى العروبة"، بحسب توصيف عبد الإله بلقزيز، نريدها عروبةً جامعةً، تنهض على دعائم ثلاث، كما أرادها الراحل منح الصلح: "العروبة والإسلام والمسيحية الشرقية"، نريدها "عروبة عاقلة"، كما أطلق عليها أحمد عبد المعطي حجازي، وهو العروبي الحالم الذي كتب أروع قصائده في رثاء عبدالناصر، وقد نظر إلى تجربته مع العروبة الرومانسية بنوع من الندم، ورأى فيها "طريقاً مفروشاً بالأوهام، مسقوفا بالأحلام، يمنحها (الجماهير) كل شيء، ولا يكلفها إلا شيئاً واحداً، هو أن تنتظر المهدي المنتظر". ولكي يصحح مسيرته السابقة شرع يُنّظر للعروبة العاقلة التي تفترض، أولاً، أن "نعرف أنفسنا، والذي لا يعرف نفسه لا يعرف غيره"، وأن "نحدد لأنفسنا (كمصريين) دوراً في المنطقة، يختلف جوهريا عن الدور الذي أديناه بالفعل" (بعد 23 يوليو/تموز 1952)، لكنه مع نظرته هذه، يقر أن "الأقطار العربية أقطار شقيقة، ترتبط فيما بينها برباط الثقافة الجامعة والمصالح المشتركة، وتواجه من داخلها وخارجها معضلات وأخطاراً تفرض عليها أن تتضامن، وتتعاون، وتنسق جهودها".
ثمة إشارات أخرى لكتاب محدثين، تجد جذورها في كتاباتٍ لرواد أوائل، مثل ساطع الحصري، الذي قال إن العروبة "لغة وتاريخ"، وزكي الأرسوزي الذي بحث في العروبة عن "مقومات العقل العربي وخصائصه وسماته". وها نحن اليوم، بعد أن خذلتنا "العروبة الرومانسية" نعاود السعي وراء "عروبة عاقلة"، وقد نحتاج وقتاً أطول كي نستقر على حال. وربما تداهمنا عثرات الزمان، فتقذف بنا خارج التاريخ الذي سوف يشرع في كتابة صفحة جديدة، عنوانها "سقوط أمة"، وقد لا نجد الفرصة للوقوف على الأطلال والبكاء على مجد مضاع.


583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"