البتراء والتلاعب بالتاريخ

06 اغسطس 2019
+ الخط -
البتراء موقع تاريخي متميز في جنوب الأردن، محفور في الصخر، كان عاصمة لمملكة الأنباط العربية بين أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وبداية القرن الثاني الميلادي. ازدهرت حضارة الأنباط بشكل خاص في القرن الميلادي الأول، وامتدت دولتهم على رقعة واسعة من شمال الجزيرة العربية، فكانت مدائن صالح من مدنهم أيضاً. وقد شغلت البتراء مكانة مهمة على خط التجارة التاريخي المعروف بـ"طريق الحرير"، كما يُعتقد أن الخط العربي الأبجدي (النبطي) نشأ وتطور على يد الأنباط العرب.
صعد حضور البتراء أخيرا في المسائل الدينية والأخبار المتعلقة بها، جديدها أخبار الفيلم السينمائي الأميركي "جابر" الذي أثار احتجاجات واسعة في الأردن، وأوقفت الحكومة تصويره، لأنه يتحدّث عن حجر يتم العثور عليه في البتراء يحتوي كتاباتٍ عبرية، إذ قال المحتجون إنه يفتح الباب أمام الزعم بوجود اليهود في المنطقة، بدعوى أن "بني إسرائيل" لمّا تاهوا في سيناء أربعين عاماً، انتقلوا إلى البتراء قبل أن يدخلوا أرض كنعان (فلسطين).
لا يبدو أن سيناريو الفيلم يستند إلى بحث علمي حقيقي بشأن قصته، وإنما هي من نسج خيال مؤلفه. على الرغم من ذلك، يرسخ عرض مثل هذه القصة عبر السينما، يقول محتجون، لدى مشاهديه فكرة ارتباط البتراء ببني إسرائيل، وتلك قضية في غاية الخطورة، لأنها تثبت لهم ادعاءاتٍ دينيةً عديدة في الأردن وفلسطين، منها زعمهم إن "وادي موسى" الذي تقع البتراء بالقرب منه سمّي بهذا الاسم نسبة إلى النبي موسى، وهو ما يدفعهم اليوم إلى تعظيم مقام هارون في المنطقة، ما يشكل، في مجمله، زعماً خطيراً يشبه مزاعمهم التي لم تثبتها أدلة
 علمية أو أثرية بشأن القدس والهيكل وغيرهما من المواقع الفلسطينية.
الواضح أن عظمة البتراء وفرادتها جعلتها ساحة لنسج التصورات الدينية من دون أدلة تاريخية ثابتة. من ذلك أيضاً زعم مستشرق ألماني، يسمي نفسه كريستوفر لوكسنبرغ (هذا ليس اسمه الحقيقي)، إن الإسلام لم ينشأ في مكة، بل في البتراء، ويستند في ذلك إلى دراسته مخطوطات القرآن القديمة، خصوصا التي وجدت في مسجد صنعاء الكبير في سبعينيات القرن العشرين، ويعود تاريخها إلى منتصف القرن الهجري الأول، إذ يقول إنها مكتوبةٌ بالخط الذي جرى تطويره في شمال الجزيرة العربية، وسمّاه المستشرق الإيطالي مايكل أماري، في القرن التاسع عشر، "الخط الحجازي"، وليست مكتوبةً بالخط الثمودي الذي كان مستعملاً في مكة والمدينة.
وبعد لوكسنبرغ، يتابع تلميذه الباحث المغربي، محمد المسيّح، صاحب كتاب "مخطوطات القرآن"، القول إن أساس حضارة العرب المسلمين نابع من حضارة عربية أقدم، معتقداً من ثم أنهم أحفاد هؤلاء الأنباط الذين كانوا أسياد القوافل التجارية بامتياز، مفسّراً اختلاف ما يقوله عن ما هو معروف من تاريخ الإسلام بأنه كُتب في بداية العصر العباسي، أي في القرن الهجري الثاني، عندما أمر الخليفة أبو جعفر المنصور معلم ولده، ابن إسحاق، بوضع كتاب عن بدايات الإسلام، أعاد صياغته ابن هشام لاحقاً، وهو اليوم أقدم "سردية إسلامية" متوفرة. لذا، يرى المسيّح، أن هذه "السردية" أعادت صياغة الأحداث وأماكنها على هوى العباسيين.
والحال أن الحاجة باتت ملحة لكتابة "قصة البتراء" ونشرها على أوسع نطاق، باعتبارها حاضرة العرب الأنباط، استناداً إلى أدلة تاريخية وعلمية وأثرية موثوقة، حتى لا تنتشر مثل تلك القصص والأخبار سالفة الذكر باعتبارها "حقيقة غائبة"، خصوصاً أن تلك التصورات ظهرت في العقدين الأخيرين وحسب، أي منذ مطلع الألفية الثالثة، فلم يلزمها إلا هذا الوقت القصير لتحظى بكل هذا الانتشار، مستفيدةً بطبيعة الحال من وسائل التواصل الاجتماعي.
ونشر "قصة البتراء" يلزمه استعمال كل الوسائل الممكنة؛ من سينما ومؤلفات علمية ومنصات تواصل بمختلف اللغات، لأن "الطبيعة تكره الفراغ". أتذكر في هذا السياق مسرحية لطيفة للمخرجة الأردنية لينا التل، اسمها "بترا إن حكت"، كتب نصها الراحل جمال أبو حمدان، وجرى عرضها في عمّان قبل عشر سنوات، تعرض قصة البتراء، بما فيها من جوانب إنسانية تعلي قيمة الإحساس بجمال الحياة، وصولاً إلى بناء علاقات إنسانية سليمة بين بني البشر بمختلف حضاراتهم، استناداً إلى دور البتراء التاريخي محطة تجارية رئيسية. كم تحتاج قصة البتراء مثل هذه الأعمال، شريطة أن يجري تسويقها جيداً.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.