منذ اليوم الأول لإعلان القيادة الروسية حربها السورية، في 30 سبتمبر/أيلول 2015، لمنع سقوط نظام بشار الأسد، كان واضحاً أن الآلاف الأربعة أو الخمسة من الضباط والجنود الآتين إلى قواعد طرطوس واللاذقية وحماة بصفة "مستشارين"، ليسوا معدّين للمشاركة في معارك برية.
على الرغم من ذلك، كانت فصائل المعارضة السورية تعتبر أن تمكنها يوماً ما من قتل جندي أو اثنين أو ثلاثة من الضباط الروس المحصنين في قواعدهم بنمط حياة أغرى زملاءهم الماكثين في قواعدهم الروسية، سيكون انتصاراً مدوياً يساوي استعادة محافظة أو مدينة استراتيجية من قوات الأسد وحلفائه الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين والأفغان.
على صورة ذلك الهدف الرمزي الذي تحقق مرة أو اثنتين عندما قُتل جندي أو اثنان من هذه القواعد الروسية في حميميم، من دون التمكن من إسقاط طائرة روسية بفضل الفيتو الصارم على تسليح المعارضة بما من شأنه كسر التوازن، يمكن التعاطي مع قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين البدء بسحب القوات البرية من سورية، ذلك أن جزءاً كبيراً من الحروب عبارة عن رموز ورسائل تتضمنها قرارات سياسية تصدر عن الصف الأول.
أكان قرار بوتين جاء ترجمةً لاتفاق أميركي ــ روسي ما لتصور ما لشكل "الحلّ" السياسي في سورية، أغلب الظن أن شخض بشار الأسد سيكون خارج جنته، أو أنه يترجم يأساً روسياً من "ترويض" الأسد وجعله يسلك في طريق الأجندة الروسية لنواحي المرحلة المقبلة عسكرياً وسياسياً في ظل اتفاق أميركي ــ روسي مبرم منذ لقاء فيينا السوري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإنّ الأكيد يبقى أن القرار يشكل زلزالاً كانت ساحات شبكات التواصل الاجتماعي أوضح تعبير له، على صفحات وجدران مؤيدي النظام السوري الذين عجزوا ولا يزالون عن "ابتلاع السكين" الذي لم تخفف من وطأته تتمات قرار بوتين وإشاراته المكررة إلى أن روسيا ستواصل حربها على الإرهاب... وهي لازمة صارت من كلاسيكيات أي بيان سياسي يصدر عن أصغر عاصمة سياسية في العالم تماشياً مع "روح العصر"، أي محاربة الإرهاب.
قرار الانسحاب البري الروسي سيكون بلا شك أحد المحطات المفصلية في الحرب السورية، تماماً مثل تفجير خلية الأزمة في دمشق الذي أحبط مشروع انقلاب كان سيحدّ من الكوارث التي حلت بالسوريين، لو حصل ونجح، ومجزرة الكيماوي، ولقاء فيينا حول سورية...
ما لم يعلنه بوتين في قرار مساء الإثنين يبقى أهم مما أعلنه:
ــ إنّ التزام روسيا ليس مع شخص بشار الأسد، بل هدف الحرب الروسية الوصول إلى تسوية سياسية تخدم مصالح موسكو، عبر أحصنة عديدة، ليس بشار الأسد إلا واحداً منها، فضلاً عن الأكراد وطوائف ومذاهب وأعراق تتبدل مع تغيرات تتصل باتفاقات وصفقات تعقد في أمكنة بعيدة جداً عن الأراضي السورية.
ــ إنّ دروس المستنقعات الأفغانية والعراقية، أكانت بالنسبة للأميركيين أو للروس، صارت راسخة في عقول حكام الكرملين، ويستحيل تكرارها في الأرض السورية.
ــ إنّ التقدم الذي حققته القوات السورية النظامية ومليشيات حزب الله والمقاتلين العراقيين والأفغان بفضل الغطاء الجوي الروسي، بلغ ذروته.
من هنا يمكن وضع عبارة بوتين "المهمة اكتملت" على طريقة الأفلام الهوليوودية الحربية، في سياقها، أي أن تقسيم مناطق النفوذ بالشكل الحالي بين قوات النظام والمعارضة، صار ثابتاً على الأرض، ويصعب تغييره بشكل جوهري، حتى أنه يمكن لفصائل المعارضة أن تتقدم في بعض النقاط في حلب وأرياف حماة وحمص ودرعا بفعل شحنة المعنويات التي ستنعكس بلا شك موضعياً بعد قرار الانسحاب، مجدداً لأن نصف الحرب عبارة عن معنويات ورموز، مثلما تفيد تلك اللحظة التاريخية التي شكلتها بداية عاصفة الحزم السعودية في اليمن، فانهارت فوراً عشرات المواقع العسكرية للنظام في سورية.
تقسيم مناطق النفوذ في سورية اليوم وغداً، عسكرياً، معقّد، بلا شك، لكن الأصعب قد يكون تصوّر شكل التقسيم الجغرافي الذي قد تفرزه خرائط بوتين ــ أوباما، أكان تحت مسميات الفيدرالية، أو تحت شعار السير بـ"الخيار الأفضل الذي يتفق عليه السوريون"، الذي لا يمل المسؤولون الإسرائيليون من الترويج له في الفترة الأخيرة، خصوصاً من واشنطن. اسألوا الأب الروحي لنظرية دولة علويستان، وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون.
اقرأ أيضاً:بوتين يطلع أوباما على قراره بسحب قواته من سورية