يثير الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجدداً الجدل داخلياً ودولياً، بعدما جعل خطوة انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، رسمية، عبر إبلاغ الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريس، بها في السادس من شهر يوليو/ تموز الحالي. وتطلق هذه الخطوة الحديث حول الدور الحيوي والرئيسي الذي تلعبه واشنطن على صعيد الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية والسياسية، والفراغ الذي سيخلفه هذا الانسحاب، خصوصاً مادياً. كما يحذر خبراء من أن الضرر سيلحق بالولايات المتحدة نفسها، وقدرتها على مجابهة الأمراض والأوبئة، والتي لن تقتصر على الدول الفقيرة. كما أن الانسحاب يأتي وسط عاصفة وباء فيروس كورونا الذي يحتاج العالم إلى توحيد جهوده لمواجهته والانتصار عليه.
يدعي ترامب أن مئات ملايين الدولارات يمكن توفيرها لبحوث في المراكز الأميركية
أما محلياً، فإن ترامب أخطر الكونغرس بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ما يطرح عدداً من الأسئلة حول التوقيت، ويخلق شرخاً إضافياً بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، على الأقل رسمياً. إذ أعلن جو بايدن، المرشح المرتقب للحزب الديمقراطي في سباق الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، عن نيته إلغاء قرار ترامب والعودة للانضمام للمنظمة في حال انتخابه. ولا يشعر جميع أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري بالارتياح لقرار الرئيس، إذ يرون أنه يترك الساحة للصين لقيادة العالم، إلا أن قلّة منهم تصرح بذلك علناً، وبشكل حازم. قانونياً، لا تزال بعض الأمور غير واضحة بالنسبة للانسحاب الأميركي، من بينها ما إذا كان ترامب يحتاج موافقة الكونغرس على الانسحاب النهائي الذي يحصل رسمياً بعد عام من تقديم الطلب، أي في السادس من يوليو/ تموز 2021.
لكن الولايات المتحدة تواجه تحديات وأضراراً من المتوقع أن تلحق بها إذا ما انسحبت من المنظمة الدولية. ويدعي ترامب أن مئات الملايين من الدولارات التي تقدمها بلاده لبرامج المنظمة الدولية، يمكن توفيرها واستثمارها في بحوث في المراكز الأميركية. ويحذر مختصون أميركيون من هذا التوجه لأسبابٍ عدة، من بينها أنه لا يوجد أي ضمان بأن إيجاد اللقاح الملائم لأي مرض، وأبرزها الآن فيروس كورونا، سيكون من قبل شركة أميركية، إذ تعمل شركات عديدة حول العالم لتوفير اللقاح. ويشير هؤلاء إلى أن الخروج من عضوية "الصحة العالمية"، قد يعني خسارة الولايات المتحدة لأفضلية في هذا السياق. ويرجح هؤلاء أن الانسحاب قد يعرّض وصول الولايات المتحدة إلى لقاحات ضد كورونا للخطر، فالقدرة على تصنيعه داخل الولايات المتحدة وتوزيعه محدودة.
ومن بين هؤلاء الخبراء، المديرة التنفيذية لمنظمة أطباء بلا حدود، فرع الولايات المتحدة، أفريل بينوا. وأشارت بينوا في تصريحات حول الموضوع، إلى أن الضرر الذي سيلحق بالدول الفقيرة والبرامج المهمة التي تمولها الولايات المتحدة، والتي تساعد على محاربة انتشار عدد من الأمراض والأوبئة حول العالم، وإيجاد لقاحات أو أدوية لها، سيكون كبيراً. ومن بين هذه الأمراض على سبيل المثال لا الحصر، شلل الأطفال والتهاب الكبد والإيدز والسل وغيرها. بل قد يؤدي القرار الأميركي إلى تراجع على مستوى التقدم الذي تمّ إحرازه في هذه المجالات، إلا أن الخسارة التي قد تلحق بالولايات المتحدة لا يستهان بها كذلك.
وفي هذا السياق، يمكن الاطلاع على بيان صادر عن الجمعية الطبية الأميركية، قالت فيه إن إعلان ترامب الانسحاب من المنظمة يعرّض صحة الولايات المتحدة لخطر شديد. ووصفت الجمعية القرار بأنه يشكل انتكاسة كبيرة للتقدم العلمي والصحة العامة وجهود التنسيق العالمية الضرورية لمكافحة انتشار وباء كورونا. ويشير البيان إلى عدد من الأمور المتعلقة بأهمية منظمة الصحة العالمية، واستفادة الولايات المتحدة من العضوية فيها. ويُذكّر هؤلاء مثلاً بالمداولات الدورية التي تديرها منظمة الصحة بين الخبراء وبشكلٍ دائم. فعلى سبيل المثال، يقرر الخبراء بقيادة المنظمة سنوياً أياً من اللقاحات للأنفلونزا يجب تطويرها في كل عام. وتدير المنظمة كذلك خرائط طريق عديدة في ما يتعلق بالبحوث حول أمراض أخرى، مثل إيبولا وزيكا وغيرها. ويحصل الباحثون والمختصون في الحكومة الأميركية على المعلومات حول تلك اللقاحات والأمراض، ويستفيدون من خبرات زملائهم حول العالم. وإذا خرجت الولايات المتحدة من المنظمة، فلن يعود خبراؤها جزءاً من تلك المداولات.
قد تخسر الولايات المتحدة الأفضلية في سباق لقاح كورونا
ويشير الخبراء إلى أمر آخر أساسي في هذا السياق، وهو شبكة المراقبة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، والتي تعد واحدة من المصادر الرئيسية للوقاية والذكاء الصحي. ويعطي بنك المعلومات هذا الإمكانية لحكومات كل الدول الأعضاء للحصول على المعلومات اللازمة لمكافحة الأمراض والأوبئة التي تهدد دولها والعالم. ويعطي هؤلاء مثالاً حول فيروس كورونا، وكيف أن الصين اضطرت تحت ضغط المنظمة العالمية لفتح أراضيها أمام مختصين من المنظمة، من ضمنهم أميركيون، للوصول إلى المناطق الموبوءة وإجراء الفحوصات الميدانية. ويؤكد هؤلاء أن الصين ما كانت لتسمح لعلماء أميركيين بالقيام بذلك، لو لم يكونوا ضمن طاقم منظمة الصحة العالمية. ويلفت هؤلاء كذلك إلى أن الولايات المتحدة ودولاً أخرى حول العالم تمكنت من تطوير الفحوصات اللازمة للكشف عن الفيروس، بسبب التعاون عن طريق منظمة الصحة العالمية وحصولها على تلك المعلومات حول الفيروس.
يأتي قرار ترامب، وربما ليس مصادفة، في الوقت الذي سجلت فيه أميركا رسمياً أكثر من ثلاثة ملايين إصابة وأكثر من 130 ألف وفاة بكورونا، ما يجعلها واحدة من أكثر الدول تضرراً من هذا الوباء. عندما أعلن الرئيس الأميركي حربه على المنظمة، منتصف إبريل/ نيسان الماضي، وقرر تجميد تمويلها، كانت أهم مدينة أميركية، نيويورك، غارقة بالوباء وشبح الموت، وكانت في طريقها لتصبح أكبر بؤرة وباء لكورونا في العالم. أما ترامب، فكان منشغلاً بتوزيع اللوم على الصين ومنظمة الصحة العالمية وحكّام الولايات الأميركية، رافضاً اتخاذ خطوات جذرية لمساعدتها. والآن عندما بدأت نيويورك، الولاية كما المدينة، باستعادة أنفاسها، تشهد مناطق أخرى من الولايات المتحدة، بعضها حيث تتمركز قاعدته الانتخابية، في ولايات مثل تكساس وفلوريدا، موجةً جديدة من الإصابات. ووصل معدل الإصابات المسجلة خلال الأيام الأخيرة في البلاد إلى قرابة الـ60 ألفاً يومياً، ما يهدد بعودة الولايات المتحدة لتكون بؤرة للوباء مجدداً.
وسط هذه الموجة "الثانية"، أو الأولى التي لم تنته بعد، يأتي إعلان ترامب ليوجه الاتهام من جديد إلى منظمة الصحة العالمية ويحملها المسؤولية عن تباطؤه هو بالرد، وفشله الذريع بالتصدي للوباء، ليكون أشبه بالقائد الذي يهرب من المعركة وهي لا تزال في بدايتها، تاركاً خلفه جنوده وشعبه يواجهون مصيرهم في وجه وباء قاتل.