الانتفاضة اللبنانية والجمهورية الثالثة

25 نوفمبر 2019
+ الخط -
مضى قرابة شهر ونصف الشهر على انتفاضة الشعب اللبناني، أو ما يسمّيها بعضهم الثورة، وما يزال الشعب مصرّاً على نيل مطالبه، وما يزال الحراك في الساحات والمناطق والمحافظات يحافظ على زخمه المعهود تقريباً، بل ابتكر أشكالاً جديدة من التعبير من دون ملل أو كلل أو تعب، وقد راهنت السلطة على ذلك كله إلا أنّ رهانها فشل، ولا يبدو أنّه سينجح أمام إصرار الشعب على مطالبه التي بدأت حياتية معيشية، وسرعان ما تحوّلت إلى سياسية بامتياز، في ضوء تحميل السلطة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد على المستويات كافة، وصولاً إلى المطالبة برحيل الطبقة السياسية وتغيير النظام.
احتفل لبنان، قبل أيام، بالذكرى السادسة والسبعين للاستقلال. وأيام الاستقلال الأولى أرست نظاماً سياسياً قام على منح امتيازات سياسية للمسيحيين (الموارنة تحديداً)؛ هكذا أرادت فرنسا التي كانت الدولة "المنتدبة" على لبنان. ولكنّ هذا النظام، وبهذه الامتيازات، سرعان ما خلّف مشكلات داخلية تحوّلت في العام 1958 إلى ثورة ضد النظام القائم. ومن ثم عادت اندلعت في العام 1975 على هيئة حربٍ أهلية استمرت قرابة خمسة عشر عاماً وانتهت في العام 1989 بموجب اتفاق وعقد جديد بين ممثلي الشعب اللبناني، أي اتفاق الطائف الذي كان الوثيقة الجديدة التي وضعت حدّاً للحرب الأهلية اللبنانية، وأدخلت تعديلات على بنية النظام السياسي اللبناني، بحيث قام على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابي والحكومة وموظفي الفئة الأولى، وكرّس عرفاً رئاسة الجمهورية للموارنة، والمجلس النيابي للشيعة، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنّة، فبات نظاماً قائماً على المحاصصة الطائفية والمذهبية، واعتبر ذلك بمثابة الجمهورية الثانية بعد الجمهورية الأولى التي انبثقت عن 
الاستقلال.
بهذه الانتفاضة العارمة والممتدة في كل المحافظات والمدن والمكوّنات والفئات العمرية والشرائح الاجتماعية والمتواصلة، يؤكد الشعب اللبناني اليوم عجز هذا النظام الطائفي القائم على هذه المحاصصة، والمسؤول عن انتشار الفساد والمحسوبية والزبائنية السياسية، عن معالجة مشكلاتهم ووضع الحلول لأزماتهم، بل على العكس، وفّر فرص الحماية للفاسدين والسارقين ومنع المحاسبة والمساءلة عنهم، تحت عنوان حماية حقوق الطائفة وصلاحيات الشخصيات والأحزاب والقوى السياسية التي تمثلها في النظام السياسي. ومن هنا، تعاظم الفساد وعمّ وانتشر، ومعه تعاظمت الأزمات في ظل عجزٍ مالي كبير وبطالة كبيرة ونمو يكاد يكون صفراً. كما عجزت كل القوى التي أرادت الإصلاح عن تحقيق أي شيء، فكان لا بدّ من الانتفاضة، بل ربما "الثورة"، على هذا الواقع، على هذا النظام، على هذه الجمهورية الثانية. فهل تشكّل الانتفاضة (الثورة) فرصة للانتقال من الجمهورية الثانية القائمة على نظام المحاصصة الطائفية إلى الجمهورية الثالثة التي يجب أن تقوم على مبدأ المواطنة ودولة القانون والمساواة والعدالة والمساءلة والمحاسبة، وكل هذه المعاني التي تكرّس منطق الحرية والمحاسبة في آن؟
الواضح أن الفرصة قائمة، خصوصا وأن الانتفاضة الشعبية تجاوزت المربعات الطائفية والمذهبية، وتخطّت الانتماءات السياسية، وكسرت جدران الخوف والقلق، وباتت مهيئة لإنتاج نظام جديد خارج إطار المحاصصة الطائفية والمذهبية والسياسية والمناطقية. نظام يعتمد معيار الكفاءة والمساواة، ويستند إلى حرية الاعتقاد والتعبير مقروناً بالمساءلة والمحاسبة، ويكون فيه القانون فوق الجميع، ومؤسسات الدولة للشعب، وليست لجهة حزبية سياسية أو طائفية. وواضح أن اللبناني بات يعي ذلك، ولكن الخطورة أن تتمكن السلطة وقواها الطائفية والمذهبية من إعادة إنتاج الانتماء والشعور الطائفي والحزبي على حساب الشعور والانتماء الوطني العام، أو من خلال إثارة النعرات والهواجس من جديد، وعندها سيتم إجهاض محاولة الخروج من هذا الواقع إلى واقع أفضل، وسيبقى اللبناني أسير جدران الجمهورية الثانية، من دون أن يتمكّن من العبور إلى الجمهورية الثالثة المنشودة.