07 اغسطس 2024
الانتخابات الرئاسية والدكتاتورية العسكرية في مصر
تعيش مصر، منذ انقلاب 1952 على الحكم الملكي، في ظل حكم عسكري ممتد، لم يتوقف إلا عاما أو أقل بعد انتفاضة يناير/ كانون الثاني 2011، ليعود الحكم العسكري في صورة جديدة تتماشى مع ما آل إليه حكم الجيش في مصر من مؤسسات وتقاليد بعد ستة عقود. ففي الخمسينيات، أسس العسكر نظاما سياسيا عسكريا تتحكم فيه مباشرة طبقة من الضباط، احتلت قمته السياسية والإدارية، وبعد أن قادت تجربة الضباط الأحرار إلى صراعات داخلية مستمرة، وإلى نكسة 1967، وإلى دولة أمنية استبدادية، وتنمية اقتصادية أجهضت، قرّر العسكر تباعاً، ولأسباب مختلفة، منها الضغط الدولي، التخلي عن الحكم المباشر لمصر، والاكتفاء بدكتاتورية عسكرية مخففة، يضمن فيها الجيش استقرار النظام، ويترك فيها مهام الحكم اليومية لأحد قادته، على أن يبقى الجيش في الخلفية مؤسسة مقدمة على ما سواها في النفوذ والمزايا.
ومنذ حكم أنور السادات، ومكانة الجيش السياسية والاقتصادية في تراجع، حيث حرص السادات ومن بعده حسني مبارك على الاعتماد بشكل متزايد على طبقة من المدنيين (خصوصا رجال الأعمال الموالين للنظام وقادة الحزب الحاكم) لمعادلة نفوذ قادة الجيش ومنع عودتهم إلى السلطة. وأدى تهميش الجيش المتزايد في عهد مبارك، لصالح رجال الأعمال وقادة الحزب الوطني الملتفين حول نجل الرئيس جمال، إلى تخلي الجيش عن دعم مبارك في انتفاضة يناير/ كانون الثاني 2011، حيث فضل قادة الجيش التخلي عن مبارك، من دون السماح بتحول ديمقراطي حقيقي، لذا سرعان ما عادوا إلى السلطة في يوليو/ تموز 2013 في انقلاب عسكري، تبعه قمع هائل راح ضحيته المئات، حفاظا على الحكم العسكري، مع تلافي مساوئ حكم مبارك، والتي قادت إلى تهميشهم في الماضي.
تم انقلاب قادة الجيش المصري على تجربة الحكم الديمقراطي في 2013 للحفاظ على الحكم العسكري لمصر الممتد منذ 1952، والذي يضمن للجيش المصري وقادته مزايا سياسية واقتصادية عديدة، من خلال مكانتهم السياسية المهيمنة من ناحية، ومؤسساتهم الاقتصادية من ناحية أخرى. وقد حرص قادة الجيش الجدد على عدم العودة إلى الحكم كمؤسسة مجددا، تلافيا لأخطاء تجربة 1952، واكتفوا بحكم قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح السيسي، البلاد، بعد منحه مرتبة مشير واستقالته. وبذلك يضمن الجيش عدم تصدره المشهد السياسي مباشرة قدر الإمكان، ويستعيد مكانته السياسية والاقتصادية بأنه حامي النظام، على أن يقوم السيسي بتوسعة أنشطة الجيش الاقتصادية، فور سيطرته على البلاد.
كما حرص قادة الجيش على تصفية أركان نظام مبارك التي همشتهم، فعلى الرغم من حفاظهم على تصدير المدنيين في قيادة مؤسسات ومهام الحكم اليومية، وحفاظهم على النظام الرأسمالي المشوه الذي يقود البلاد منذ نهاية السبعينيات، تخلصوا من الحزب الحاكم، ومن أهم قوى المعارضة، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، وبعض قادة الشباب والقوى اليسارية والليبرالية، كما أفرغوا نظام التعددية السياسية المقيدة الذي اعتمد عليه حسني مبارك من مضمونه
الأساسي، والذي تمثل في السماح بانتخابات برلمانية مقيدة، يضمن فيها مبارك التنافس بين نخب داعمة له، ينتهي بها الأمر بالانضمام إلى حزبه الحاكم.
ويبدو أن تجربة قادة الجيش السلبية مع قادة الحزب الحاكم دفعتهم إلى عدم تكرارها، كما حرصوا على تصفية قوى التيار الديني الأكثر تنظيما في مصر، لضمان إضعاف المعارضة الجماهيرية لحكمهم، مع تقليل اعتمادهم على الغرب، المطالب بإصلاحات ديمقراطية، والتوجه، في المقابل، نحو رأس المال الخليجي الداعم للاستبداد.
وبهذا يبدو النظام الحاكم في مصر حالياً في بداية حقبة جديدة من الدكتاتورية العسكرية يضمن فيها الجيش مكانته السياسية والاقتصادية المهيمنة من خلال حكم السيسي، من دون الاعتماد على حزب حاكم، أو السماح بالتعددية السياسية المقيدة التي شهدها عهد مبارك، على أن تلعب المؤسسات الأمنية دورا أكبر في الهيمنة على وسائل الإعلام والانتخابات البرلمانية والنخب الاقتصادية، في ظل دعم مالي خليجي، ومزيد من الاستقلالية في التعامل مع الغرب.
وفي هذا السياق، تبدو الانتخابات الرئاسية الراهنة في مصر نقطة تأسيس مهمة للنظام الجديد، على الرغم من اتصافها بقدر هائل من القمع وعدم التنافسية، دفعت كثيرين إلى القنوط منها وتجاهلها، فالنظام الحالي، والذي تأسس بعد انقلاب 2013، مر حتى الآن بمرحلتين أساسيتين. تلت الأولى الانقلاب، وتحالف في بدايتها الجيش مع بعض القوى "المدنية" الرافضة حكم التيار الديني، رافعا شعار إنقاذ مصر من الفوضى والانقسام السياسي وحكم التيار الديني ومحاربة "الإرهاب".
أما المرحلة الثانية، فتدشن لها الانتخابات الرئاسية الحالية، فالنظام الجديد يدخلها وقد تخلى تماما عن تحالفه مع القوى "المدنية" الداعمة لانقلاب 2013، كما دفع دخول رئيس الأركان المصري السابق، سامي عنان، ساحة الانتخابات، لتدخل القوات المسلحة بشكل سافر وغير مسبوق لمنعه من الترشح، دعما لنظام السيسي وخوفا من العودة إلى قدر من التعددية السياسية. ولعل تدخل الجيش بهذه الصورة أكد طبيعة الحكم العسكري مصر، على الرغم مما يبدو من تراجع للجيش عن تصدر المشهد السياسي.
وهكذا تبدو الانتخابات الراهنة كأنها لحظة تأسيس ثانية لانقلاب 2013 العسكري، يظهر فيها بشكل فج دور الجيش السياسي وطبيعة النظام القمعية، والتي أقصت كل منافسيه، وتخلت عن التعددية السياسية المقيدة التي اتسمت بها نهاية حكم مبارك، مستفيدة كذلك من تطورات النظام الدولي في السنوات الأخيرة، والتي تتميز بتراجع الديمقراطية في العالم، وتراجع النفوذ الغربي لصالح ديكتاتوريات، كالصين وروسيا، وصعود إقليمي لتأثير دول الخليج، الداعمة للثورة
المضادة، بفوائضها المالية ونشاطها في محاربة الربيع العربي وتبعاته.
وعلى الرغم من أن طريقة عقد الانتخابات تظهر سيطرة النظام، وضمان فوزه، وترسيخه القمع المفرط أداة للتعامل مع معارضيه، وكلها عوامل قوة، تصب في صالح النظام واستمراريته في ظل البيئة الإقليمية والدولية الراهنة، إلا أن الانتخابات كشفت أيضا عن نقاط ضعف مهمة داخل النظام، في مقدمتها كشفها الطبيعة العسكرية للنظام الحاكم، وطبيعته القمعية في مقابل عجزه عن تكوين شعبية سياسية، تضمن له عدم اللجوء إلى القمع السياسي السافر.
ثانياً: تجري الانتخابات في ظل سياق اقتصادي، يظهر فيه النظام ضعيفا عاجزا عن تقديم أي عوائد اقتصادية لسياساته، تبرر ما يمارسه من قمع وسلب للحريات، خصوصا وأنه قادم بعد انتفاضة جماهيرية وتجربة حكم ديمقراطي، هي الأهم في تاريخ مصر الحديث، ومع تراجع دعاية النظام ومخاوف الجماهير من عدم الاستقرار وقضايا كالإرهاب في الفترة المقبلة، سوف يزداد التساؤل حول جدوى النظام الحالي، والمقابل الذي تحصل عليه الجماهير، في مقابل الرضا بالقمع وغياب الحريات.
ثالثاً: سوف تمثل الانتخابات فرصة مهمة للحكم على قدرة النظام على التعبئة الجماهيرية، في غياب حزب سياسي، وفي ظل ما يمارسه من دعاية وقمع، فعلى الرغم من عدم حاجة النظام للانتخابات، لضمان بقائه في الحكم، إلا إن اضطراره لإجرائها، بسبب التزاماته القانونية والدولية الشكلية، سوف يجعل منها مناسبة مهمة للحكم على مدى شعبية الدكتاتورية العسكرية الجديدة.
وفي حالة عزوف الناس عن المشاركة، بشكل غير كبير، وعجز آلة النظام الإعلامية والأمنية عن التعبئة، وبعد ما مارسه النظام من قمع، وفي ظل تململ الجماهير اقتصاديا، قد تشعر فئات داخل القوات المسلحة المصرية بأن النظام، بخصائصه الراهنة، يضر بصورتها وسمعتها، وأنه في حاجة لإجراء إصلاحات داخلية.
ومنذ حكم أنور السادات، ومكانة الجيش السياسية والاقتصادية في تراجع، حيث حرص السادات ومن بعده حسني مبارك على الاعتماد بشكل متزايد على طبقة من المدنيين (خصوصا رجال الأعمال الموالين للنظام وقادة الحزب الحاكم) لمعادلة نفوذ قادة الجيش ومنع عودتهم إلى السلطة. وأدى تهميش الجيش المتزايد في عهد مبارك، لصالح رجال الأعمال وقادة الحزب الوطني الملتفين حول نجل الرئيس جمال، إلى تخلي الجيش عن دعم مبارك في انتفاضة يناير/ كانون الثاني 2011، حيث فضل قادة الجيش التخلي عن مبارك، من دون السماح بتحول ديمقراطي حقيقي، لذا سرعان ما عادوا إلى السلطة في يوليو/ تموز 2013 في انقلاب عسكري، تبعه قمع هائل راح ضحيته المئات، حفاظا على الحكم العسكري، مع تلافي مساوئ حكم مبارك، والتي قادت إلى تهميشهم في الماضي.
تم انقلاب قادة الجيش المصري على تجربة الحكم الديمقراطي في 2013 للحفاظ على الحكم العسكري لمصر الممتد منذ 1952، والذي يضمن للجيش المصري وقادته مزايا سياسية واقتصادية عديدة، من خلال مكانتهم السياسية المهيمنة من ناحية، ومؤسساتهم الاقتصادية من ناحية أخرى. وقد حرص قادة الجيش الجدد على عدم العودة إلى الحكم كمؤسسة مجددا، تلافيا لأخطاء تجربة 1952، واكتفوا بحكم قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح السيسي، البلاد، بعد منحه مرتبة مشير واستقالته. وبذلك يضمن الجيش عدم تصدره المشهد السياسي مباشرة قدر الإمكان، ويستعيد مكانته السياسية والاقتصادية بأنه حامي النظام، على أن يقوم السيسي بتوسعة أنشطة الجيش الاقتصادية، فور سيطرته على البلاد.
كما حرص قادة الجيش على تصفية أركان نظام مبارك التي همشتهم، فعلى الرغم من حفاظهم على تصدير المدنيين في قيادة مؤسسات ومهام الحكم اليومية، وحفاظهم على النظام الرأسمالي المشوه الذي يقود البلاد منذ نهاية السبعينيات، تخلصوا من الحزب الحاكم، ومن أهم قوى المعارضة، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، وبعض قادة الشباب والقوى اليسارية والليبرالية، كما أفرغوا نظام التعددية السياسية المقيدة الذي اعتمد عليه حسني مبارك من مضمونه
ويبدو أن تجربة قادة الجيش السلبية مع قادة الحزب الحاكم دفعتهم إلى عدم تكرارها، كما حرصوا على تصفية قوى التيار الديني الأكثر تنظيما في مصر، لضمان إضعاف المعارضة الجماهيرية لحكمهم، مع تقليل اعتمادهم على الغرب، المطالب بإصلاحات ديمقراطية، والتوجه، في المقابل، نحو رأس المال الخليجي الداعم للاستبداد.
وبهذا يبدو النظام الحاكم في مصر حالياً في بداية حقبة جديدة من الدكتاتورية العسكرية يضمن فيها الجيش مكانته السياسية والاقتصادية المهيمنة من خلال حكم السيسي، من دون الاعتماد على حزب حاكم، أو السماح بالتعددية السياسية المقيدة التي شهدها عهد مبارك، على أن تلعب المؤسسات الأمنية دورا أكبر في الهيمنة على وسائل الإعلام والانتخابات البرلمانية والنخب الاقتصادية، في ظل دعم مالي خليجي، ومزيد من الاستقلالية في التعامل مع الغرب.
وفي هذا السياق، تبدو الانتخابات الرئاسية الراهنة في مصر نقطة تأسيس مهمة للنظام الجديد، على الرغم من اتصافها بقدر هائل من القمع وعدم التنافسية، دفعت كثيرين إلى القنوط منها وتجاهلها، فالنظام الحالي، والذي تأسس بعد انقلاب 2013، مر حتى الآن بمرحلتين أساسيتين. تلت الأولى الانقلاب، وتحالف في بدايتها الجيش مع بعض القوى "المدنية" الرافضة حكم التيار الديني، رافعا شعار إنقاذ مصر من الفوضى والانقسام السياسي وحكم التيار الديني ومحاربة "الإرهاب".
أما المرحلة الثانية، فتدشن لها الانتخابات الرئاسية الحالية، فالنظام الجديد يدخلها وقد تخلى تماما عن تحالفه مع القوى "المدنية" الداعمة لانقلاب 2013، كما دفع دخول رئيس الأركان المصري السابق، سامي عنان، ساحة الانتخابات، لتدخل القوات المسلحة بشكل سافر وغير مسبوق لمنعه من الترشح، دعما لنظام السيسي وخوفا من العودة إلى قدر من التعددية السياسية. ولعل تدخل الجيش بهذه الصورة أكد طبيعة الحكم العسكري مصر، على الرغم مما يبدو من تراجع للجيش عن تصدر المشهد السياسي.
وهكذا تبدو الانتخابات الراهنة كأنها لحظة تأسيس ثانية لانقلاب 2013 العسكري، يظهر فيها بشكل فج دور الجيش السياسي وطبيعة النظام القمعية، والتي أقصت كل منافسيه، وتخلت عن التعددية السياسية المقيدة التي اتسمت بها نهاية حكم مبارك، مستفيدة كذلك من تطورات النظام الدولي في السنوات الأخيرة، والتي تتميز بتراجع الديمقراطية في العالم، وتراجع النفوذ الغربي لصالح ديكتاتوريات، كالصين وروسيا، وصعود إقليمي لتأثير دول الخليج، الداعمة للثورة
وعلى الرغم من أن طريقة عقد الانتخابات تظهر سيطرة النظام، وضمان فوزه، وترسيخه القمع المفرط أداة للتعامل مع معارضيه، وكلها عوامل قوة، تصب في صالح النظام واستمراريته في ظل البيئة الإقليمية والدولية الراهنة، إلا أن الانتخابات كشفت أيضا عن نقاط ضعف مهمة داخل النظام، في مقدمتها كشفها الطبيعة العسكرية للنظام الحاكم، وطبيعته القمعية في مقابل عجزه عن تكوين شعبية سياسية، تضمن له عدم اللجوء إلى القمع السياسي السافر.
ثانياً: تجري الانتخابات في ظل سياق اقتصادي، يظهر فيه النظام ضعيفا عاجزا عن تقديم أي عوائد اقتصادية لسياساته، تبرر ما يمارسه من قمع وسلب للحريات، خصوصا وأنه قادم بعد انتفاضة جماهيرية وتجربة حكم ديمقراطي، هي الأهم في تاريخ مصر الحديث، ومع تراجع دعاية النظام ومخاوف الجماهير من عدم الاستقرار وقضايا كالإرهاب في الفترة المقبلة، سوف يزداد التساؤل حول جدوى النظام الحالي، والمقابل الذي تحصل عليه الجماهير، في مقابل الرضا بالقمع وغياب الحريات.
ثالثاً: سوف تمثل الانتخابات فرصة مهمة للحكم على قدرة النظام على التعبئة الجماهيرية، في غياب حزب سياسي، وفي ظل ما يمارسه من دعاية وقمع، فعلى الرغم من عدم حاجة النظام للانتخابات، لضمان بقائه في الحكم، إلا إن اضطراره لإجرائها، بسبب التزاماته القانونية والدولية الشكلية، سوف يجعل منها مناسبة مهمة للحكم على مدى شعبية الدكتاتورية العسكرية الجديدة.
وفي حالة عزوف الناس عن المشاركة، بشكل غير كبير، وعجز آلة النظام الإعلامية والأمنية عن التعبئة، وبعد ما مارسه النظام من قمع، وفي ظل تململ الجماهير اقتصاديا، قد تشعر فئات داخل القوات المسلحة المصرية بأن النظام، بخصائصه الراهنة، يضر بصورتها وسمعتها، وأنه في حاجة لإجراء إصلاحات داخلية.