لم يخفِ المستشار السابق للرئيس الأميركي للشؤون الاستراتيجية ستيف بانون، منذ عزله عن دائرة البيت الأبيض قبل نحو عامين، رغبته بالتأسيس لما يسميها "ثورة شعبوية" في أوروبا، وعمل جاهداً لهذا حتى إنه وبحسب صحيفة "إيل مساجيرو" الإيطالية ووكالة "إنسا"، فقد رأى في اجتماع في العاصمة الألمانية برلين في 16 مايو/ أيار الحالي، أن "ثلث مقاعد البرلمان الأوروبي، بنسبة 33 إلى 35 في المائة، ستذهب للمعسكر القومي الشعبوي، وهذا سيخلق زلزالاً في بروكسل (مقرّ البرلمان الأوروبي)"، في الانتخابات الأوروبية التي بدأت يوم الخميس الماضي، وتنتهي اليوم الأحد. ومن خلال تحالفاته في أوروبا؛ التي تتضح معالمها أكثر مع توجه القارّة نحو انتخابات البرلمان الأوروبي، أوضح بانون هدفه منذ صيف العام الماضي 2018. وبحسب موقع "ديلي بيست" الأميركي، يبدو جلياً أن علاقته برئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، تنطلق من فكرة العداء المشترك للملياردير الأميركي - المجري اليهودي، جورج سوروس، وعلاقته مع وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، تنطلق في مسألة العداء لسياسة تقوية مؤسسات الاتحاد الأوروبي من قبل ألمانيا وفرنسا.
وعبّر بانون منذ نحو عام تقريباً عن مسعاه للرد على معارضيه في القارّة عبر محاولة تقوية معسكر اليمين المتشدد، ودفعه للتكتل قبل انتخابات البرلمان الأوروبي. وعليه، بات كثيرون يربطون ذلك المسعى بجهود سالفيني في عقد اجتماعين تنسيقيين للمعسكر المتشدد، في مطلع إبريل/ نيسان الماضي وفي 18 مايو الحالي.
واتضحت أخيراً مساعي بانون في التوسع لمحاولة إيجاد موطئ قدم في إسكندنافيا، تحديداً في النرويج والدنمارك. وعلى الرغم من الرفض الذي قوبل به في خريف 2018 من قبل أحزاب سياسية تقليدية، حتى في صفوف اليمين المتشدد، مثل حزب الشعب الدنماركي وديمقراطيي السويد، إلا أن الرجل، في هذه الأجواء المشحونة، بدا أنه استطاع تحقيق ولو اختراق أولي. هذا الاختراق ظهر في النرويج، وتحديداً في العاصمة أوسلو ومدينة بيرغن، الأسبوع الماضي. التقى بانون خلالها ببعض قياديي حزب "سترام كورس"، اليميني المتطرف في الدنمارك، ومنهم زعيمه المرشح للانتخابات الأوروبية، راسموس بالودان، المثير للجدل بحرقه القرآن واستفزاز المهاجرين والدعوة لترحيلهم. هذا إلى جانب لقاءاته مع قادة حزب "فريمسكريت بارتي" النرويجي، اليميني المتشدد، المشارك في الحكومة. ما خلق جدلاً داخلياً حول "اللقاء السري".
برر مستضيفو بانون، في مؤتمر مؤسسة "إعلام الشمال"، وهي مؤسسة تضمّ المؤسسات الإعلامية في دول الشمال (النرويج، الدنمارك، السويد، فنلندا، أيسلندا) ومقرها النرويج، باسم "حرية التعبير". وعلى الرغم من الرفض الشعبي ومن أحزاب اليسار ويسار الوسط، إلا أن الوسط الأكاديمي، وخصوصاً المتطرف في كوبنهاغن وأوسلو شارك في اللقاء. ومن هؤلاء الكاتبة النرويجية المعادية بالمطلق، في كل إصداراتها ومناظراتها للمسلمين ودولهم، هيغي ستورهاوغ، ومديرة مؤسسة "المطبوعات" الدنماركية آيا فوغ (التي عادت من الاجتماع لتكتب مقالاً يمدح بقوة أفكار بانون)، وعدد من الباحثين ومدرسي الجامعات. وخلقت زيارة بانون لهذه الزاوية من أوروبا الشمالية، والتقاؤه بقادة ومفكرين متطرفين، بعض القلق بسبب مساعيه كسر الرفض الحزبي لتدخلاته في الانتخابات المحلية والأوروبية، دعماً للمعسكر الشعبوي. وهو ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى القول منتصف الأسبوع الحالي، إن "هناك للمرة الأولى تواطؤاً بين القوميين ومصالح أجنبية لتفكيك أوروبا"، واصفاً ستيف بانون بأنه "قريب من الحكم الأميركي".
بناء قاعدة: بروكسل ـ روما
وعلى الرغم من الرفض العام لبانون، إلا أنه وبحسب وكالة "إنسا"، يستند في محاولته اختراق المستوى الحزبي الأوروبي على مؤسسته "الحركة"، وهي مؤسسة "استشارات سياسية" أسسها في بروكسل لخلق قوة دافعة لليمين القومي المتطرف، بتحالف عابر للحدود الأوروبية. وتنتهج "الحركة" آليات عمل لوضع أهداف واستراتيجيات وحملات إعلامية منسقة، لتعزيز التقاء الأحزاب الشعبوية الأوروبية على أهداف مشتركة. ويبدو أن قضيتي الهجرة و"الراديكالية الإسلامية" ومعارضة "الإدارة الأوروبية التقليدية"، أسهل ما تلتقي عليه تلك الأحزاب في سياق حملات الانتخابات الأوروبية.
ففي لقاءات ستيف بانون في النرويج في 12 مايو، كشف الرجل عن "تكتيكات" مطلوبة، أثناء ردوده على ستورهاوغ، التي زايدت على بانون بتقديم نفسها كـ"أكثر شخص إسلاموفوبوي في النرويج" بالهجوم على الدول والمجتمعات المسلمة، فنهرها بانون بلطف، كمستشار وموجّه ربما، بالقول إن "الدول الإسلامية هي حليف طبيعي في النضال ضد الراديكالية الإسلامية".
وبعد امتداح دافئ لصديقه أوربان، لناحية وصوله إلى تحقيق نسبة 50 في المائة من أصوات الناخبين إلى البرلمان الأوروبي، ذكر بانون بضرورة التنسيق بين قوى المعسكر الشعبوي، معتبراً أنه "معسكر يحقق تقدماً في السويد وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا والدنمارك والنمسا (قبيل الفضيحة التي هزت أركانه أخيراً بتسريب فيديو لزعيمه هاينز كريستيان شتراخه)".
ونقل بانون الكثير من نشاطات "الحركة" إلى روما، لمراقبة "التنسيق الناشئ بين الأحزاب الشعوبية"، في ضيافة سالفيني. واعتبر بانون أن "الحركة القومية الشعبوية تشهد تقدماً كبيراً، وهذا انتصار كبير للقوميين". لكن، وفقاً للتقارير المتابعة لتحركات الرجل، فإن اختيار بانون لروما ليس غريباً. فبحسب ما ذهبتا إليه "لا ستامبا" و"كورييري ديلا سيرا" الإيطاليتان، وغيرهما من صحافة ووسائل إعلام أوروبية، فقد استطاع بانون من خلال مؤسسته "الحركة"، وبالتعاون مع زميله المتشدد في معسكر المسيحيين المحافظين بنجامين هارنويل، وجد أخيراً ضالته في دير تريسولتي، على بعد ساعتين من جنوب شرقي روما، ليكون قاعدة انطلاق رئيسة. ويقع الدير المصنّف بـ"التاريخي" قرب بلدة كولّيباردو. وبمساندة سالفيني، استأجر بانون الدير بمبلغ 100 ألف يورو سنوياً (112 ألف دولار)، ليصبح الدير الضخم والمنعزل على ارتفاع 800 متر، أشبه بـ"أكاديمية" أو "مختبر أفكار" لتحقيق ما يصبو إليه منظرو "الثورة الشعبوية الأوروبية".
في السياق، ذكرت الصحافة الإيطالية أن هدف بانون هو "تحويل الدير إلى أكاديمية لتدريب المحاربين الثقافيين"، وهم تحديداً "القوميون المتشددون من معسكر المسيحيين المحافظين، فمن هذا الجبل يريد ستيف بانون أن تتسرب الأفكار والمدربون نحو روما وأزقة أوروبا"، على الرغم من الاحتجاجات الإيطالية المعارضة لهذا الفكر.
وبحسب صحيفة "لا ستامبا" لا يخفي شريك بانون، هارنويل الهدف من تأسيس هذا الدير بمساندة قوية من الكاردينال الأميركي المثير للجدل ريموند بورك، وهو تحويله لمدرسة تتبع مؤسسة بورك الدينية المتشددة "معهد الكرامة الإنسانية"، على اعتبار أن المعهد هو "مختبر أفكار وأكاديمية للجيل القيادي الجديد من الشعبويين والقوميين، ممن سيدافعون عن أوروبا المسيحية، بوجه التهديد الزاحف من الأسلمة والعلمانية المعولمة والاتحاد الأوروبي".
بدوره، يبرر بانون اعتبار إيطاليا قاعدة لتحركاته في القارّة، بالقول إن "إيطاليا أصبحت مركزاً للسياسات العالمية الشعبوية، ففيها أول حكومة أوروبية تحالفية من هذا الطراز، بين رابطة الشمال وحركة النجوم الخمس"، على ما تنقل عنه "ديلا سيرا" الإيطالية. وبالنسبة لبانون فإن سالفيني "أعاد الحياة للاعتزاز الوطني في إيطاليا". ولا يخفي سالفيني مطلقاً دعمه لـ"الحركة"، بل سيعمل على جمع شعبويي القارّة.
أما الأوروبيون المعارضون لمعسكر التطرف القومي الشعبوي، وخصوصاً في دول الشمال، فيعبّرون عن مخاوفهم من قدرة بانون على اختراق الساحة، تحديداً أن الأحزاب والحركات القومية المتعصبة التي كانت حتى الأمس القريب خارج دائرة النفوذ، صارت اليوم جزءاً من المؤسسات. كما حصل في إيطاليا وألمانيا، التي دخل فيها حزب "البديل لأجل ألمانيا" بقوة إلى البرلمان، حتى إن إسبانيا شهدت ولوج حزب "فوكس" اليمين المتشدد بنحو 10 في المائة للبرلمان الإسباني، ومن المرجّح دخوله البرلمان الأوروبي بالنسبة ذاتها.
ورأت عضو البرلمان الأوروبي عن "حزب الشعب الاشتراكي" في الدنمارك، مارغريتا أوكن، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن نتائج اليمين المتشدد "تستدعي مواجهتها كتحديات للطبقة السياسية والحزبية من كل الاتجاهات، فالصمت على توسع تدخلات ستيف بانون بحرية وتحت مسميات أكاديمية وحرية تعبير أمر يحمل مخاطر كبيرة لأوروبا". وأضافت أن "مخاوف الأوروبيين من تقدم الحركة الشعبوية والمتعصبين في بلادهم، لا تتعلق بنفوذ بانون وعلاقاته، بل بما يعتبرونه تراجع قدرة الأحزاب التقليدية والإدارات البيروقراطية التاريخية على الإجابة عن تحديات متراكمة في القارّة، من قضية بريكست التي أصبحت أزمة، إلى قضية اللاجئين وعجز الأوروبيين عن حلّها طيلة 5 أعوام، لتكتشف كيف أنها مؤسسات وأحزاب تعاني ومن ثم تخلق جواً مناسباً لبانون وغيره بالتأثير السلبي".
الهدف مبكراً: انتفاضة شعبوية
منذ عام 2014، أي قبل انخراط بانون في دعمه دونالد ترامب للرئاسة الأميركية، عبّر بانون في كلمة له بمؤتمر أقامه هارنويل في الفاتيكان، عن إيمانه بما يسميه "الغرب اليهودي - المسيحي"، محذراً في الوقت ذاته من "أننا في حرب مفتوحة مع الفاشية الإسلامية". وأوضح أنه "يجب مقاومة مشاكل العلمنة في ظل نظام رأسمالي فاسد بسبب النخب العالمية". وحمل بانون شعار "الثورة الشعبوية"، التي تتطلب برأيه "الكفاح لأجل إيماننا ومعتقداتنا ضد البربرية الجديدة، التي تريد تدمير كل ما كان لدينا خلال ألفي عام ماضية". وبحسب المشروع الجديد، في أكاديمية بانون في دير تريسولتي، سيكون هناك دورات لأسابيع وأشهر، وقد بوشر العمل بها في روما موقتاً، ريثما تتجهز الأكاديمية كاملاً، وفقاً لهارنويل، الذي أكد أن "المئات سجلوا أسماءهم في الأكاديمية"، لافتاً إلى أنه "يهدف إلى تحويل هذا الدير إلى معقل للنضال المسيحي ضد الأعداء الخارجيين".
(غداً: تنافس للحصول على رئاسة المفوضية الأوروبية)