الاستبداد .. والوعي والجهل وأحوال الخوف

28 فبراير 2020
+ الخط -
عودة إلى عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، الكتاب الذي يقدم إطارا تفسيريا لما يحدث في الواقع على المستويات السياسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية كافة، ومن ثم يمكن الانطلاق من بعض مقولاته التفسيرية في كل محور (الدين - العلم – المال – التربية - الأخلاق – المجد - الترقي - التاريخ)، مع تنزيلها على المجالات المعاصرة والبنية الاستبدادية المتعلقة بها؛ هذا التفسير الشبكي الذي أشار إليه كاتب هذه السطور مرارا وتكرارا في التفسير المركّب للظاهرة الاستبدادية، ومن ثم لم يكتف الكواكبي بالحديث عن شخص الحاكم المستبد وخصائصه، بل أسهب في وصف "المجتمع المستبد"، عبر شرح شبكة العلاقات الوثيقة بين الاستبداد من جهة، والعلم والدين والمال والتربية والأخلاق، من جهة أخرى. تشعّب تلك العلاقات يفسر صعوبة التخلص من الاستبداد، على الرغم من التخلص من رأسه، أو بعض رموزه، كما هي الحال الآن في كلّ الأقطار العربية المنتفضة التي تواجه ثوراتٍ مضادّة محلية، أو من صنع الخارج. وربما هذا الاستهلال الذي ابتدأ به المقدمة لكتابه، مؤكّداً على الحقيقة السابقة، بالبراهين والأدلة، المقنعة باستقراء التاريخ ومشاهدات واقع الحياة ومجرياتها، وذلك مثل قوله: "ومن الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً‌ أنَّه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ (معايب) الإنسانية". 
من رحم شبكة الجهل تنتفي حالة الوعي؛ ومن عموم هذه الحال تولد مسالك الخوف والتمكين لها، احتكار المعلومة وتصنيعها؛ وتجهيل المجتمع؛ وصناعة الكراهية نحو المتعلمين المتنورين ذوي 
الكرامة، لأن سلطان العلم قد يفوق سلطان أولئك الكارهين؛ تهميش الشعب (العوام) واعتبارهم رعاعا غوغائيين غير ناضجين، وتشبيههم بالقطيع المحتاج للقيادة والحماية، والمستبد لا يخاف علوم اللغة، خصوصا إذا لم يكن ما وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحل عقد الجيوش؛ .. ولا العلوم الدينية المختصة ما بين الإنسان وربّه؛ لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة، ولا تزيل غشاوة؛ وإنما يتلهى بها المتهوسون، فمسألة الوعي طاقة إيجابية مادتها العلم والمعرفة والمعلومة، ومعنى الحكمة والبصيرة، ومن ثم كان ".. بين العلم والاستبداد حرب دائمة؛ يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام؛ العوام الذين إذا جهلوا خافوا؛ وإذا خافوا استسلموا؛ ومتى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا"، إنها معركة وعي الناس. وبتزييف لحالة الوعي وانتشار الجهل وتعميم حالة الخوف، يصير عموم الناس من ".. العوام قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويجول؛ فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم؛ فيحمدونه على إبقائه على حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته (حنكته) وإذا أسرف في أموالهم؛ يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يمثل يقولون رحيم ...".
عمليات الوعي والتنوير من مهمات وظيفة العالم الكفاحية في مواجهة عمليات الاستبداد وأحوال الطغيان المستقرة والمقرّة لاستمرار هذه الحال وشروطها، ذلك "أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها إلى إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس؛ والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكّلون بهم؛ فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره؛ وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء".. ذلك "أن فرائص المستبدّ ترتعد خوفًا من العلم، قائلاً إنه كلما تغلغل الجهل في أواصر المجتمع، ازدادت قدرة الحاكم على الاستبداد، فالعلم مقاتل مقدام يخشاه المستبد، ويخشى من قدرته على إرشاد الرعية لمواطن الحقوق وسبيل الحصول عليها. إن المستبد سارق ومخادع، والعلماء منبهون ومحذرون، وللمستبد أعمال ومصالح لا يفسدها عليه إلا العلماء". الوظيفة السياسية للعالم أن تكون عينه على الأمة لا السلطة، فتكون الأمة ومصلحتها بوصلته وقبلته في علمه الذي ينشر، وعمله الذي هو به يَصلُح ويُصلِح.
العلم المقصود هو العلم المنير المستنير العلم الحي الذي يحيي النفوس والعقول، لا العلم البارد 
الجامد أو العلم المزور الزائف.. "العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا، ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير فضّاحا للشر، يولد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة، العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام، والمتأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته. ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ، وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، وفي قوله: وما كنا لنهلك القرى وأهلها مصلحون، وإن كان علماء الاستبداد يفسّرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد كما حركوا معنى مادة الفساد والإفساد من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدّين. والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظاتٍ كثيرة كأنها مكتبات مقفلة!". بين العالم المدرك وظيفته الكفاحية لمواجهة كل استبداد وعالم السلطان الذي يقوي ويدعم كل استبداد تكون المفارقة الكبرى التي تمثل فرقانا بين سلطان العلماء وعلماء السلطان والشيطان، بين علماء الحق والحرية وعلماء النفاق والعبودية.
إنها شبكة الوعي والتنوير في مواجهة بنية الجهل والخوف "ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي، يتصرّف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافا قاصرين، فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم .. والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف، ولا وسيلة لتخفيف الخوف، أو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه؛ لينكشف للإنسان أن لا محل فيه للخوف منه، وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأن المستبد امرؤ عاجز مثلهم زال خوفهم منه وتقاضوه حقوقهم .. والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم..، وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم بترقيها المستبد اللئيم على الترقي معها والانقلاب رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، .. قال المدققون: إن أخوف ما يخافه المستبدّون.. من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزها، والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما هي لذاتها... والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمةٍ قط إلا وتكسّرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين".
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".