على مدارِ سبعة عقود من الصراع، كانت المعركة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي إثبات وجود، وماتزال، وأحد أهم أسلحتها، إسرائيلياً، السرقات المُمنهجة للآثار الفلسطينية وتدمير بعضها.
غير أن هذا الأمر قُوبل بإهمالٍ شديد من قِبل الفلسطينيين، ورغم كل الحكومات المتعاقبة، لم يلتفت أحد لتلك الآثار، ما دفع بعضهم لبذل جهود فردية غير منظمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
محاولات للحماية
"وليد العقاد"، مواطن فلسطيني وباحث في تاريخ الآثار الفلسطينية قام بتحويلِ منزله إلى ما يشبه المتحف الصغير، الذي يحتوي على قطعٍ أثرية قيّمة تعود إلى عددٍ من الحضارات، يقدم شهادته على سرقة آثار غزة من قِبل وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي الأسبق "موشي ديان"، وتدمير ما لم يستطع جيشه ويداه الوصول إليه، بعدها قرر الرجل الحفاظ على ما تبقى من تاريخ وطنه.
العقاد الذي أقام متحفه في ردهة منزله الواقع بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، يقول لـ"العربي الجديد" إنه أنشأه بشكلٍ سري حتى لا تتم ملاحقته من قِبل الاحتلال، واصفاً إياه بأنه نوع من النضال في وجه الاحتلال الذي سرق الآثار الفلسطينية.
ويضيف :"بدأ اهتمامي قبل 35 عاما بجمع الآثار وشرائها بسبب غيرتي الوطنية، حينما كنت أشاهد في سبعينيات القرن الماضي سرقة الاحتلال الإسرائيلي ووزير جيشه الأسبق موشي ديان الآثار التي كان مُولعاً بها، حيث كانوا يهبطون بطائرة خاصة في المواقع الأثرية ويُنقّبون فيها ويعثرون على قطعٍ أثرية مميّزة، كمنطقة أم عامر في النصيرات، ومنطقتي تل قطيفة وتل ريدان في خانيونس، وتل زعرب في مدينة رفح".
ويلفت العقاد إلى أن ذلك دفعه للاهتمام بالآثار والمحافظة عليها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاحتلال، وأنشأ متحفه الشخصي الذي يحتوي على نحو 2850 قطعة أثرية، مُوضحاً :"قمت بالتنقيب عن جزءٍ منها، والجزء الآخر اشتريته من بعضِ مَنْ عثر عليها خوفاً من بيعها أو تدميرها أو وصولها إلى يد الاحتلال أو عملائه".
ويبيّن العقاد أنه اشترى القطع الأثرية على مدار 35 عاماً بحوالى 70 ألف دولار، فيما قدر وفدان أوروبيان - نرويجي وفرنسي- زاراه سابقاً، سعر تلك القطع بمبلغ مليوني ونصف المليون دولار.
السرقة
تجربة المواطن العقاد، وما يحويه متحفه، تكشف عن مدى ما يمكن أن تصل إليه يد المواطن الغزي من آثار بقيت في حيز الإهمال، حتى وإن كانت غاية الوصول إليها الحفاظ عليها.
أستاذ علم الآثار القديمة في الجامعة الإسلامية ، الدكتور أيمن حسونة يؤكد لـ"العربي الجديد" أن واقع الآثار في قطاع غزة لا يبشّر بخير، نظراً لما تعرّضت له من إهمالٍ شديد. كاشفاً أن عدداً من المواقع التي عثر عليها الإسرائيليون أثناء احتلالهم القطاع نقلوا ما عثروا عليه كاملاً إلى متاحفهم، مشيراً إلى غياب إحصائية عن أعداد تلك المواقع.
ويضيف :"الإسرائيليون سرقوا مواقع أثرية كاملة مثل فسيفساء كنيسة بيزنطية في تل بطشان بغزة، وتلة الرقيش في دير البلح التي عثروا فيها على الكثير من الآثار التي نقلوها إلى متحف جامعة بير السبع، إضافةً إلى تنقيبهم في موقع تل ريدان ومنطقة البركة في دير البلح والتي عثروا فيها على توابيت نقلوها إلى متحفٍ في القدس".
يقول الوكيل المساعد في وزارة السياحة والآثار بغزة د.محمد خلة، إنه قبل العام 2008 كان تهريب الآثار من قِبل المواطنين على أشدّه، غير أن تواصل وزارته مع وزارة الداخلية حال دون استمرار هذه الظاهرة، مشيراً إلى أن عمليات سرقة الآثار وتهريبها باتت شبه معدومة في الوقت الراهن.
بحثت "العربي الجديد" عن قانون الآثار المعمول به في فلسطين، وقد تبيّن أنه ذاته القانون الأردني، ولا يحتوي على أية مواد رادعة ضد سارقي الآثار، واكتُفي بالفقرة (ج) من المادة 47 التي تنص على أن: "كل من صدّر أو حاول تصدير أي أثر قديم حُظِر تصديره بمقتضى المادة 35 من هذا القانون يُعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين أو بغرامة مئة دينار إلى ثلاثمئة دينار، ويجوز الاستعاضة عن الغرامة بقيمة الأثر حسب تقدير المدير إذا كانت أكثر من مبلغ الغرامة المحكوم به".
وبذلك اكتفى القانون بتلك العقوبات غير الرادعة، وفقا لكل من التقاهم "العربي الجديد" من مؤرخين وخبراء آثار، والتعامل مع الآثار بقيمتها المادية لا التاريخية، فيما شرّع القانون المتاجرة بها دون تحديد نوعها وحجمها وكميتها من خلال استصدار رخصة من وزارة الآثار لـ "التجار".
من جانبه، يقول مدير مركز عمارة التراث في الجامعة الإسلامية (إيوان) د. محمد الكحلوت إن السرقة واحدة من أهم الانتهاكات التي مورست ضد الآثار الفلسطينية بشكلٍ عام، مستدلاً على ذلك بقيام الاحتلال الإسرائيلي بتجريف الأراضي في مناطق عدة من القطاع وتدمير الآثار المدفونة، إضافة إلى سرقته الكثير منها.
ويشير الكحلوت في حديثٍ لـ"العربي الجديد" إلى أنه من غير المُستبعد وجود الكثير من الآثار بحوزة دولة الاحتلال التي سرقتها مباشرةً، أو عن طريق عملائها أثناء احتلالها قطاع غزة الذي دام نحو أربعين عاماً.
كشف.. ودفن!!
وبحسب د.أيمن حسونة، فإن كمية الآثار التي مازالت موجودة في باطن الأرض تُساوي أضعافا مضاعفة من تلك المكتشفة، موضحاً: "ما اكتُشف لا يُمثّل سوى 1% من كمية الآثار الكلية في قطاع غزة، بما أن المواقع التي تم التنقيب فيها معدودة على الأصابع ولا تزيد عن ستة".
ويُشير حسونة إلى أن المواقع التي اُكتشفت عانت من الإهمال من خلال التوقّف عن التنقيب فيها، إذ إن نسبة التنقيب في تلك المواقع لم تزد على 5% من مساحتها، مضيفاً :"مثلاً ميناء غزة القديم المعروف بـ"البلاخية" لا تزيد نسبة التنقيب فيه على 3% من مساحته، وتل السكن نُقّب في 1% من مساحته فقط".
غير أن تلك المواقع المكتشفة التي تعود لحضارات عدة، كالكنعانية واليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، سُرعان ما طواها الإهمال من جهة، و"قلة حيلة" المؤسسات الحكومية من من جهةٍ أخرى، إذ يؤكد الدكتور محمد خلة، أن عددا من المعيقات التي واجهتهم في عمليات التنقيب عن الآثار، بسبب الحصار المفروض على القطاع، وعدم وجود الكثير من المعدات التي تُستخدم في التنقيب والترميم، أدّت إلى دفن عددٍ من المواقع المكتشفة.
ويُضيف :"جملة تلك المشاكل، أدّت إلى قيام الوزارة بإعادة دفن الكثير من المناطق الأثرية التي اكتُشفت مؤخراً، وتزيد على عشرة مواقع في عددٍ من مدن قطاع غزة، منها موقع أصلان الأثري الذي اُكتشف قبل عام في بلدة بيت لاهيا شمالي القطاع، ويحتوي على كنيسة بيزنطية".
تدمير البيوت الأثرية
في مدينة غزة القديمة التي قصدناها، كانت خطوات قليلة داخلها كفيلة بأن نشعر بأننا نسير في معلَمٍ أثري كبير أخّاذ. لكن سرعان ما تلاشى ذلك الشعور، حين تعمقّنا في بعض مناطقها، لنُصدم من حجم التدمير الذي طال الكثير من مبانيها كغيرها من مناطق قطاع غزة.
يوضح د. محمد خلة، وجود نحو مئتي موقع ومبنى أثري في القطاع، إضافة إلى العديد من البيوت الأثرية، مشيراً إلى أنه وعلى الرغم من أن قانون الآثار الفلسطيني يمنع أي استحداث أو تدمير للآثار، غير أن هناك العديد من المشاكل تواجه هذه البيوت، على رأسها اشتراك العديد من الورثة في ملكيتها.
ويضيف :"هناك تواصل مع بلدية غزة ومعظم بلديات القطاع، لعدم إعطاء تراخيص أو أذون بالهدم إلا بعد أخذ رأي وزارة السياحة والآثار، لكن للأسف قد يقوم المواطن خلال الإجازة الأسبوعية بالهدم أو الترميم دون علم البلدية أو الوزارة، ما يُعرّضه للمساءلة القانونية، بالإضافة إلى حاجة المواطنين إلى التوسُّع، والتي تجعلهم يقومون بذلك".
بحاجةٍ إلى تدخّل
مدير عام الهندسة والتخطيط في بلدية غزة، والمختص في الآثار م. نهاد المغني، يقول لـ "العربي الجديد" إن نحو خمسة في المئة فقط من مباني قطاع غزة الأثرية مازالت تحتفظ بقيمتها وطابعها الحضاري، لافتاً إلى أن بقية المباني تعرّضت لمخالفاتٍ من قِبل المواطنين، بين هدمٍ وعدم اهتمام أو هجران، مشيراً إلى أن آثار القطاع بحاجةٍ إلى تدخلٍ سريع لحمايتها وصونها.
ويؤكد أن بعض عمليات التطوير القديمة عملت على تدمير أحياء كاملة فيها آثار رائعة في البلدة القديمة من غزة، مضيفاً: "في عهد حكم الإدارة المصرية لقطاع غزة تم شق شارع الوحدة وسط البلدة القديمة بطول كيلو متر واحد، وعبَرَ من الطرف الشمالي من البلدة، وهُدمت بسببه المئات من المباني والمناطق، ومازالت أجزاء بعض البيوت قائمة إلى يومنا هذا".
ويشير المغني إلى أنه من ناحية تنظيمية كان ذلك الأمر إنجازاً كبيراً، غير أنه من ناحية القيمة التاريخية، فالتطوير كان عبارة عن كارثة بما تحمل الكلمة من معنى على الآثار الفلسطينية.