الإعلان العالمي لحقوق الإنسان راهناً

18 ديسمبر 2014

تظاهرة في باكو بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (14ديسمبر/2014/Getty)

+ الخط -

يحتفل العالم سنوياً يوم 10 ديسمبر/كانون أول باليوم العالمي لحقوق الإنسان، ومن حقنا أن ننتبه، بهذه المناسبة، لمآثر ميثاق 1948 وفتوحاته السياسية، وذلك من دون إغفال مفارقات ما فتئ يراكمها أيضاً، ونحن نقترب من الاحتفال، بعد سنوات قليلة، لعقده السابع. فقد عرف العالم أنماطاً جديدة من الصراع، تجاوزت، في تصورنا، مبادئ كثيرة بلورتها مفرداته وبنوده في منتصف القرن الماضي.

ننطلق، في هذه المقالة، بمناسبة اليوم المذكور، من الإقرار باعترافنا، أولاً، بالقيمة القانونية والأخلاقية التاوية خلف بنوده. ونقرأه مشروعاً فعلياً لإرادة تروم إعطاء الاعتبار الأول والأكبر للحرية والمساواة والإخاء والكرامة البشرية، وكلها مفاهيم يُعيِّنها نص الإعلان، يدافع عنها، ويضعها ضمن سلم أولوياته، بل ويتغنّى بها في ديباجاته، وتعمل بنوده على تفصيل القول في بعض جزئياتها، بما يمكِّن من التعرف على محتواها، كما فهمه مُدَوِّنو الإعلان في الزمن الذي دُوِّن فيه، وضمن الملابسات التاريخية والسياسية التي صاحبت عملية التدوين.

وعندما نفكر في الإعلان، في ضوء الأسئلة وردود الفعل التي توالت منذ صدوره، طوال العقود التي توالت بعد إقراره، نكتشف، مرة أخرى، إيجابياته المتعددة، فهو، ككل النصوص القانونية الدولية، نشأ محملاً بإشكالات التوافق الذي تمت صياغته في إطارها، فلم يكن بإمكانه أن يصدر إلا بالصورة التي صدر بها.

صحيح أن الميثاق ساهم في إنجاب جملة مواثيق عملت، بصور مختلفة، على ترميمه واستكمال جوانب عديدة من عدته القانونية. كما عملت على التخلص بأشكال عديدة من كثير من مقدماته الفلسفية والأخلاقية، نتبين علامات ذلك في عهدَي الحقوق المدنية والسياسية، كما نقرأه في ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد صدرا معاً سنة 1966.

هل يعني هذا أن مرجعية الإعلان العالمي تحولت إلى سقف عقائدي مُؤَسِّس لكل خطاب في مجال حقوق الإنسان؟

لا يعني طرح السؤال أننا نسلم بالإيجابية المطلقة لإعلان أعِدَّ في سياق ملابسات سياسية أيديولوجية تاريخية معلومة، قدر ما يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن انفجار الوعي الحقوقي الذي ولَّده الإعلان بتوالي صدور مواثيق جزئية، يعد أمراً مقبولاً، بناءً على ديباجة الإعلان وروحه العامة. وعندما تعلن المواثيق الجزئية اختلافاتها مع بعض بنود الإعلان، أو تحيل، في ديباجاتها، إلى مرجعيات دينية أو أخلاقية مناقضة أو متكاملة مع مرجعياته، يؤدي الأمر، في النهاية، إلى توسيع دائرة النظر، ويحول النسبية المستوعبة في بنود الإعلان إلى أمر فعلي، كما أن جهود الفاعلين في حقل تدوين هذه المواثيق تتحول، في نظرنا، إلى مكاسب جديدة، تثري دائرة الإعلان وتغنيها، بما يمكِّن من ضرورة مواصلة الجهد، لتحيين هذه البنود وإعادة النظر فيها، وذلك في ضوء ما راكمته الإنسانية في أزمنة وأمكنة متعددة، في موضوع إيجاد صيغة عالمية لإعلان يرعى هذه الحقوق.

تتعلق الانتقادات القوية التي وُجِّهت للإعلان بالتركيز على طابعه المُفارِق، عندما تُمْتَحن بنوده في علاقاتها بالواقع، واقع العلاقات بين الأفراد والدولة، وواقع علاقات الدول فيما بينها، وواقع علاقات الشعوب فيما بينها. فقد ظلت بنود كثيرة في الإعلان في مستوى الوعي القريب من الطوبى، والبعيد عن الممارسات الفعلية داخل الجماعات الإنسانية. كما ظلت بنوده المتعلقة بالعلاقات الدولية مجرد طموحات متنافرة كلية مع ما يجري في الواقع، من أشكال الصراع والحيف والتنازع، المعتمد شريعة الغاب وشريعة الأقوى، ولم تتمكن اللغة الحقوقية المغلفة بنوده من اختراق إرادات العنف المؤطرة للوجود التاريخي القائم بين الأمم والدول والشعوب.

إذا ما تابعنا نماذج من الجهود التي بُذلت في نقد الإعلان، استطعنا أن نتبين أن توسيع المرجعية بالإشارة إلى مختلف التيارات الفكرية التي ساهمت، بطريقةٍ أو بأخرى، في تبني جوانب من قضايا حقوق الإنسان، ساهم في إشراك الجميع في موضوع يتعلق بالجميع، فنحن لا نستطيع الدفاع عن كونية مبادئ حقوق الإنسان ومواثيقها إلا بإشراك كل الثقافات التي ناصرت، أو تناصر، هذه الحقوق. فلا يُعقل، بعد صدور جيل من المواثيق المتبنية لمرجعيات محدَّدة، أن تظل صيغة الإعلان الأممي لسنة 1948 بمثابة صيغة نهائية ومغلقة.

ونحن نعتبر أن الخروق الكبرى التي تمارسها الدول العظمى، اليوم، في مجال التشريع لاقتصاد عالمي، يحمي مصالح الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات، والتسويات الإقليمية التي يمارسها الأقوياء، تحت أغطية وشعارات القانون الدولي والمؤسسات الدولية في صيغها القائمة، تندرج في سياق حماية حقوق الإنسان وحقوق الشعوب.

إن إعادة صياغة هذا الإعلان في ضوء متغيرات أشرنا إلى أمثلة منها، فيما أطلقنا عليها نعت الخروق التي تمارسها الدول الكبرى، اليوم، على باقي شعوب العالم، وفي أكثر من واجهة من واجهات الصراع السياسي العالمي، تتطلب فتح نقاش معمق حول جملة من المبادئ والقواعد الأخلاقية التي تتجه إلى بناء ميثاق لا يكتفي باستعادة المبادئ العامة التي وجهت إعلاناً حُرّر منذ نحو سبعين سنة، بل يعمل على بلورة مبادئ مناسبة للتطور الذي عرفته رحلة البشرية خلال هذه المدة، وهي تناضل مُنَدِّدَة بكل ما يخالف حقوق الإنسان والشعوب، وداعية إلى مناصرة كل ما يمكن من حماية كل الجماعات البشرية من التعبير عن قيمها بكل شجاعة، نُصْرَة لآدمية الإنسان في كل مكان.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".