04 نوفمبر 2024
الإدمان والتهميش والإجابات الخاطئة في تونس
استفاق الرأي العام في تونس، ثاني أيام عيد الفطر، على خبر وفاة سبعة شبان، وفقدان ما يزيد عن خمسة ضحايا بصرهم، ولحق فشل كلوي بعشرات، وإصابة 70 آخرين بحالات تسمم حادة، وما زال معظمهم تحت العناية الطبية المركزة، وذلك كله نتيجة احتساء خلطة من المواد الكحولية معدة بشكل عشوائي في محلات خاصة.
وقعت الكارثة في أرياف مدينة حاجب العيون، في محافظة القيروان (وسط). تجمع هؤلاء الشباب احتفاء بالعيد، وتشفيا من الحجْر الصحي الذي نكل بهم، فكانت الكارثة في انتظارهم. تيتم بعضهم، وتثكل آخرون، وسحق الألم عائلات معدمة، ما زالت تحت وطأة الصدمة والفاجعة.
ليست حادثة موت الشباب إثر احتساء هذه الخلطات العجيبة الأولى من نوعها في تونس، فقد تتالت مثلها في مناطق عديدة، أقبل الشباب على صنع مواد كحولية رخيصة يدويا، وهي خلطات من مواد كحولية وغذائية وكيميائية زهيدة الثمن. مات عشرات الشباب في أحداث سابقة ناجمة عن الشرب المفرط لهذه المواد، أو فساد الخليط وتسممه. ما كشفت عنه فاجعة حاجب العيون (ريف القيروان) ليست سوى قمة جبل الجليد الذي ما خفي منه أعظم. تفيد كل دلالاته بأن الإدمان أصبح حقيقة مؤلمة تفتك بشباب تونسيين كثيرين، فالإحصائيات التي تقدمها سنويا دوائر الصحة المدرسية والجامعية مفزعة في هذا الاتجاه، فقد فتك الإدمان بفتيان دون سن الخمسة عشر عاما، ولم تسلم الفتيات منه. وحسب تقديراتٍ، فإن نسبة الثلث ممن هم على مقاعد الدراسة أدمنوا الكحول أو المخدّرات.
ولكن علينا أن نميز بين استهلاك الخمور عامة والظاهرة الكحولية (الإدمانية)، فالأخيرة أشد
تعقيدا ومختلفة تحديدا عن استهلاك الخمر أو الإدمان على المخدّرات بمختلف أنواعها. لا تعود الظاهرة، كما يتصور بعضهم، إلى موانع قانونية، فتونس من البلدان العربية القليلة التي يباع فيها الخمر علنا وفي أماكن معلومة تحت رقابة الدولة. تنتشر نقاط الخمور في كامل ولايات الجمهورية، باستثناء محافظة القيروان التي يعود فيها المنع إلى "المكانة الروحية" للمدينة، ومعارضة مشايخها ونخبها الدينية منذ عقود هذه الإجراءات، وظلت استثناء جاريا. ربما لا تغطي كل نقاط البيع هذه كل حاجات الناس إلى ذلك، وربما يختار عديدون من المقبلين عليها طقوسا أخرى لا توفرها المحلات هذه، إذ يفضل الشباب، المعدم تحديدا، فضاءات خاصة، بعيدا عن المحلات المرخّص لها: يلوذ هؤلاء إلى بنايات مهجورة وضيْعات قصية، تخفيفا للتكلفة، وبحثا عن جلسات "حميمية" تنتهي أحيانا بجرائم قتل.
عوامل عديدة تدفع هؤلاء الشباب إلى البحث داخل سوق موازية عن استهلاك الكحول، سواء في شكله التجاري الخاضع للترخيص والرقابة، أو في تلك الخلطات الغريبة والقاتلة أحيانا. وليس المقام هنا هو البحث عن أسباب استهلاك الكحول التي تظل عديدة، منها ما يعود إلى مسالك في الحياة، لا علاقة لها بضنك المعاش ونكده، أو اضطرابات النفس وعللها، ذلك أن استهلاك الكحول لا يحيل ضرورة إلى شخصيات معتلة مأزومة. وإنما السياق هنا عن الإدمان عليها، أي الظاهرة الكحولية، حين يبدأ شد الشخص إلى حلقات التبعية النفسية إلى الكحول، وتعديل مزاج الفرد ومزاجه على وقع استهلاك كميات مرتفعة وبنسبة "كحولية" عالية، حيث يتعطل نشاط الفرد، وتُشل قدرته وتتعطل مداركه، وحتى حواسّه.
كيف لبلد يبيح استهلاك الكحول بجميع أنواعها (من الفاخرة إلى العادية، المحلية والمستورة)، منذ قيام الدولة الوطنية، على الرغم من خضوع هذا الحال إلى شروط مرنة إلى حد ما، أن يشهد بكثافة مثل هذه الحالات؟ أليست الحقيقة مختلفة عن الصورة النمطية التي تبدو فيها تونس بلاد السياحة والخمرة؟ ما الذي يفسر هذه الأحداث المتكرّرة التي تلقي سنويا مئات الشباب نحو حتفهم الموجع؟ البلد "الليبرالي"، ولأسباب عديدة (قيم نخبه الوطنية، رهانه على السياحة ..) أجاز استهلاك الخمور. ولكن يبدو أن "النفاذ إلى هذا الحق" ظل محصورا في فئات محدودة، ليست بالضرورة مرفهة ماليا، فاستهلاك الخمور يشترط، إلى جانب القدرة المالية، السكن في مناطق حضرية تتوفر فيها نقاط البيع تلك. على هذا النحو، ظل عالم الريف (وحتى الأحياء الشعبية) مقصيا من "حق النفاذ هذا" بالمعنيين، الجغرافي والمادي للكلمة، إضافة طبعا إلى عوامل ثقافية، إذ لا ينجو مستهلكو الخمور في تلك المناطق من خطر الوصم والانكشاف.
تدل هذه الأحداث على وجود عالمين يشقان "الظاهرة الكحولية"، عالم منظم خاضع لتشريعات
وقواعد ومسالك ترويج، تظل تحت رقابة الدولة ومؤسساتها، حيث يكون النفاذ إليها خاضعا لشعائر و"طقوس عبور" يقتضي النفاذ إليها، والتمتع بخدماتها، قدرة مالية تحديدا، وفق مناخات ليبرالية، ما تجيز هذا ولا تستنكره، وعالم آخر من المدمنين عادة و"السكّيرين"، يطلق عليهم في تونس أسماء عديدة وغريبة، على غرار "الزبراطة"، واللفظ مشتق من "الزنبريط"، وهو اسم متداول في قاموس هؤلاء للدلالة على تلك الخلطة التي قتلت شباب أرياف القيروان، وتطلق عليه جهاتٌ أخرى لفظ "الصاروخ" الذي فتك، منذ سنوات خلت، بشباب مدن بعض الواحات .. إلخ.
تنتشر في هذه الأوساط المعدمة، والواقعة في أسفل السلم الاجتماعي، حيث تنهشها الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، عادات استهلاك الكحول الرخيصة التي لا تلبيها نقاط بيع الخمور خلسة، المنتشرة والتي تقدرها تقريبا أوساط أمنية بمائتي نقطة بيع في أرياف القيروان وحدها، حيث تقام شبكات تواطؤ بينهم وبين بعض رجال الأمن، كما كشفت تحقيقات قضائية. يذهب بعضهم إلى الدعوة إلى "ديمقراطية" استهلاك الخمور وإتاحة النفاذ إليها، حتى يصبح استهلاكه وشراؤه "أكثر عدلا ويسرا"، بعد أن أصبح العثور عليه مغامرةً مضنيةً. وقد شق الأمر أكثر في ظل الحجْر الصحي. ولكن يبدو أن المعالجة الصحية للظاهرة الكحولية لا تقتصر على توفير الخمر لطالبه فحسب، والحال أن هذه الفئات معدمة، عاجزة عن تدبر قوتها اليومي، بل تكون عبر تبني سياسات عمومية إدماجية، تمنح حق النفاذ إلى العمل، والتربية تحديدا، وتقطع مع آليات إنتاج التهميش والإقصاء المجالي والاقتصادي لفئات عُمرية، وجهات ظلت مبعدة من سوق التبادل المادي والرمزي، حتى لا يقتصر هذا على تخليط "الزنبريط" القاتل وتبادله خلسة. في هذه العوالم المهمشة، حيث ترتفع نسبة البطالة بأشكال قياسية، مصحوبة عادة بنسب مرتفعة من الانقطاع عن الدراسة والأمراض العصبية والتفكك العائلي. وللأسف تقدم ولاية القيروان "نموذجا مثاليا" لهذه اللوحة القاتمة على المستوى الوطني. يلوذ الشباب بعالم الإدمان على الكحول، وتبدو مسالك تجنب هذا المصير غائمة، وغير واضحة، لشبابٍ لم يسمع مطلقا خطاب النخبة ومواعظ الساسة والمشايخ. إنهم يبنون فضاءات النسيان، ردا على فظاعة تناسيهم. إدانة موت هؤلاء لا تقل بشاعةً عن قتلهم بالخليط الملعون. بائعو الخمرة خلسة يهمسون: إياكم وأن تفعلوها وظلوا معا نحارب بيعها جهارا. تجيب المقابر: هل سنستقبل المزيد من ضحايا الخليط هذا وما شابهه، في ظل نسيان متعمد لحاجات هؤلاء الحقيقية وحتى الوهمية؟ لن يكون توفير الخمرة ووفرتها إجابة عن تلك الحاجات، ولكن محاربتها ومنعها تحت ذرائع عديدة في ظل تواصل التهميش هي إمعان في الإذلال والقتل البطيء. ثمّة تفكير آخر خارج الصندوق، يقتضي الخروج من الوصفات الجاهزة التي تقدمها لنا خطب كسيحة.
ليست حادثة موت الشباب إثر احتساء هذه الخلطات العجيبة الأولى من نوعها في تونس، فقد تتالت مثلها في مناطق عديدة، أقبل الشباب على صنع مواد كحولية رخيصة يدويا، وهي خلطات من مواد كحولية وغذائية وكيميائية زهيدة الثمن. مات عشرات الشباب في أحداث سابقة ناجمة عن الشرب المفرط لهذه المواد، أو فساد الخليط وتسممه. ما كشفت عنه فاجعة حاجب العيون (ريف القيروان) ليست سوى قمة جبل الجليد الذي ما خفي منه أعظم. تفيد كل دلالاته بأن الإدمان أصبح حقيقة مؤلمة تفتك بشباب تونسيين كثيرين، فالإحصائيات التي تقدمها سنويا دوائر الصحة المدرسية والجامعية مفزعة في هذا الاتجاه، فقد فتك الإدمان بفتيان دون سن الخمسة عشر عاما، ولم تسلم الفتيات منه. وحسب تقديراتٍ، فإن نسبة الثلث ممن هم على مقاعد الدراسة أدمنوا الكحول أو المخدّرات.
ولكن علينا أن نميز بين استهلاك الخمور عامة والظاهرة الكحولية (الإدمانية)، فالأخيرة أشد
عوامل عديدة تدفع هؤلاء الشباب إلى البحث داخل سوق موازية عن استهلاك الكحول، سواء في شكله التجاري الخاضع للترخيص والرقابة، أو في تلك الخلطات الغريبة والقاتلة أحيانا. وليس المقام هنا هو البحث عن أسباب استهلاك الكحول التي تظل عديدة، منها ما يعود إلى مسالك في الحياة، لا علاقة لها بضنك المعاش ونكده، أو اضطرابات النفس وعللها، ذلك أن استهلاك الكحول لا يحيل ضرورة إلى شخصيات معتلة مأزومة. وإنما السياق هنا عن الإدمان عليها، أي الظاهرة الكحولية، حين يبدأ شد الشخص إلى حلقات التبعية النفسية إلى الكحول، وتعديل مزاج الفرد ومزاجه على وقع استهلاك كميات مرتفعة وبنسبة "كحولية" عالية، حيث يتعطل نشاط الفرد، وتُشل قدرته وتتعطل مداركه، وحتى حواسّه.
كيف لبلد يبيح استهلاك الكحول بجميع أنواعها (من الفاخرة إلى العادية، المحلية والمستورة)، منذ قيام الدولة الوطنية، على الرغم من خضوع هذا الحال إلى شروط مرنة إلى حد ما، أن يشهد بكثافة مثل هذه الحالات؟ أليست الحقيقة مختلفة عن الصورة النمطية التي تبدو فيها تونس بلاد السياحة والخمرة؟ ما الذي يفسر هذه الأحداث المتكرّرة التي تلقي سنويا مئات الشباب نحو حتفهم الموجع؟ البلد "الليبرالي"، ولأسباب عديدة (قيم نخبه الوطنية، رهانه على السياحة ..) أجاز استهلاك الخمور. ولكن يبدو أن "النفاذ إلى هذا الحق" ظل محصورا في فئات محدودة، ليست بالضرورة مرفهة ماليا، فاستهلاك الخمور يشترط، إلى جانب القدرة المالية، السكن في مناطق حضرية تتوفر فيها نقاط البيع تلك. على هذا النحو، ظل عالم الريف (وحتى الأحياء الشعبية) مقصيا من "حق النفاذ هذا" بالمعنيين، الجغرافي والمادي للكلمة، إضافة طبعا إلى عوامل ثقافية، إذ لا ينجو مستهلكو الخمور في تلك المناطق من خطر الوصم والانكشاف.
تدل هذه الأحداث على وجود عالمين يشقان "الظاهرة الكحولية"، عالم منظم خاضع لتشريعات
تنتشر في هذه الأوساط المعدمة، والواقعة في أسفل السلم الاجتماعي، حيث تنهشها الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، عادات استهلاك الكحول الرخيصة التي لا تلبيها نقاط بيع الخمور خلسة، المنتشرة والتي تقدرها تقريبا أوساط أمنية بمائتي نقطة بيع في أرياف القيروان وحدها، حيث تقام شبكات تواطؤ بينهم وبين بعض رجال الأمن، كما كشفت تحقيقات قضائية. يذهب بعضهم إلى الدعوة إلى "ديمقراطية" استهلاك الخمور وإتاحة النفاذ إليها، حتى يصبح استهلاكه وشراؤه "أكثر عدلا ويسرا"، بعد أن أصبح العثور عليه مغامرةً مضنيةً. وقد شق الأمر أكثر في ظل الحجْر الصحي. ولكن يبدو أن المعالجة الصحية للظاهرة الكحولية لا تقتصر على توفير الخمر لطالبه فحسب، والحال أن هذه الفئات معدمة، عاجزة عن تدبر قوتها اليومي، بل تكون عبر تبني سياسات عمومية إدماجية، تمنح حق النفاذ إلى العمل، والتربية تحديدا، وتقطع مع آليات إنتاج التهميش والإقصاء المجالي والاقتصادي لفئات عُمرية، وجهات ظلت مبعدة من سوق التبادل المادي والرمزي، حتى لا يقتصر هذا على تخليط "الزنبريط" القاتل وتبادله خلسة. في هذه العوالم المهمشة، حيث ترتفع نسبة البطالة بأشكال قياسية، مصحوبة عادة بنسب مرتفعة من الانقطاع عن الدراسة والأمراض العصبية والتفكك العائلي. وللأسف تقدم ولاية القيروان "نموذجا مثاليا" لهذه اللوحة القاتمة على المستوى الوطني. يلوذ الشباب بعالم الإدمان على الكحول، وتبدو مسالك تجنب هذا المصير غائمة، وغير واضحة، لشبابٍ لم يسمع مطلقا خطاب النخبة ومواعظ الساسة والمشايخ. إنهم يبنون فضاءات النسيان، ردا على فظاعة تناسيهم. إدانة موت هؤلاء لا تقل بشاعةً عن قتلهم بالخليط الملعون. بائعو الخمرة خلسة يهمسون: إياكم وأن تفعلوها وظلوا معا نحارب بيعها جهارا. تجيب المقابر: هل سنستقبل المزيد من ضحايا الخليط هذا وما شابهه، في ظل نسيان متعمد لحاجات هؤلاء الحقيقية وحتى الوهمية؟ لن يكون توفير الخمرة ووفرتها إجابة عن تلك الحاجات، ولكن محاربتها ومنعها تحت ذرائع عديدة في ظل تواصل التهميش هي إمعان في الإذلال والقتل البطيء. ثمّة تفكير آخر خارج الصندوق، يقتضي الخروج من الوصفات الجاهزة التي تقدمها لنا خطب كسيحة.