الإخوان وسؤال الاستقرار في مصر

12 يناير 2018
+ الخط -
طرحت ثورات الربيع العربي سؤال الاستقرار بقوة على دول الإقليم. ويبدو أن أحد أهم أسباب عدم الاستقرار هو أن الصيغ التي توافقت عليها أنظمة ما قبل هذه الثورات مع الإسلاميين الذين قبلوا بالعمل السياسي من داخلها قد انتهت، ولم تطرح صيغ جديدة بديلة، باستثناء تجربتي تونس والمغرب، وفاقم من عدم الاستقرار تقاطع ذلك مع محاور صراع إقليمية ودولية تدور في الإقليم.
وتعتني هذه المقالة بحالة مصر. حيث كان التنافس بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام حسني مبارك (1981 - 2011)، إلا أنه كانت هناك تفاهمات غير مكتوبة على قواعد اللعبة، صدورا عن الإدراك أن جهود "الإخوان المسلمين" إحدى محدّدات الاستقرار في مصر، وتجلى ذلك في ثلاث محطات أساسية.
الأولى في أوائل التسعينيات، عندما تصاعد عنف جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية، سمح النظام للإخوان المسلمين بالتوسع، خصوصًا في أوساط الشباب للحيلولة دون انخراطهم في هذا العنف. الثانية هي السماح للإخوان بالتمدّد وسط الفئات المتضرّرة اقتصاديا بالعمل الخيري، لجبر ضرر برامج التفكيك الاقتصادي وهيكلته، وتخفيف وطأة هذه البرامج عليهم، حتى ملأوا جزءا من الفراغ الذي تولد من انسحاب الدولة عن تقديم الخدمات العامة الأساسية لمواطنيها في التعليم والصحة. وصحيح، في الوقت نفسه، أن النظام حرص على ضروره الفصل بين تقديم الخدمات والتوظيف السياسي لها في الانتخابات، لكنه قبل الأولى، وحاول تحجيم الثانية. أما المحطه الثالثة فهي السماح بنشاط إخواني متعدّد الوجوه في المجال العام (البرلمان - النقابات...) للظهور بمظهر ديمقراطي، وتحويلها إلى إطار تفريغ الطاقات، ليحول دون انصرافها إلى العنف، في ظل أنه، في النهاية، وضع لها سقوفا محكومة، يتم تحديدها وفق كل مرة.
استفاد النظام في مصر، واستفاد الإخوان المسلمون أيضاً عبر تحقيق أهدافهم من انتقال الدعوة 
إلى الحيز العام، وتربية الكوادر، وإيجاد الشرعية له. وبغض النظر عن أهداف الفريقين، إلا أن الاستقرار قد تحقق طوال هذه الفترة، بيد أنه في العام 2005 بدأت محددات هذه الصيغة تتغير، ما أدى، بالإضافه إلى عوامل أخرى ومتشابكة، إلى ثورة 25 يناير.
وطبيعة الثورات أنها تهدم الصيغ القديمة، لكنها ليست بالضرورة قادرة على بناء صيغ جديدة وبديلة. وقد نشأ في هذا الظرف تفاهم (وليس بالضرورة توافق خواطر) بين الإخوان المسلمين والمجلس العسكري، يقوم على استيعاب الحراك الثوري، ولكن وفق أهداف متعارضة، فالمجلس العسكري يريد استقرار الدولة وهيمنته عليها، وتحقيق مصالح مؤسسته التي يمثلها، بينما يريد "الإخوان" بناء المؤسسات سريعا بين (برلمان، دستور، رئاسة) بغير انتقال الممارسة السياسية من الشارع إلى المؤسسات، وإنهم كانوا يتوقعون الفوز بالأغلبية لامتلاكهم تنظيما قويا، إلا أنهم لم يدركوا أن بناء المؤسسات في المرحلة الانتقالية يتطلب حدا من التوافق بين الفاعلين في المشهد بشكل أساسي، وهو ما لم يحدث، فلم يتم التوصل إلى صيغة تفاهم، ما أدى إلى حدوث "30/6" وظهور نظام "3/7" الذي انقلب على "الإخوان".
وانتقل الإخوان المسلمون من الرغبة في تحقيق الاستقرار إلى تعويق تحقيقه، وانتقلت الدولة العميقة في مصر من إحداث عدم الاستقرار للإخوان في أثناء حكمهم إلى البحث عن الاستقرار الذي لم يتحقق حتى الآن، ما يؤدي إلى ضعف الدولة المصرية.
وهنا يحسن استدعاء تجربتي تونس والمغرب. جرت في الأولى التفاهمات بين حركة النهضة وقطاع من النظام القديم، بضغط من المجتمع المدني التونسي (الترويكا)، ومن بعض الدول. أما في المغرب، فقد تم التوافق بين الدولة العميقة (المخزن) وحزب العدالة والتنمية، ما أدى إلى استيعاب حراك فبراير (شباط) 2011، بالإضافه إلى مبادرة الملك محمد السادس للإصلاح.
استندت هاتان الصيغتان إلى وجود مسار ديمقراطي تشاركي، يستوعب جميع القوى الفعالة في المشهد، وقادر على التطوير فيه باستمرار، فقامت فيه الحركة الإسلامية بالفصل بين الدعوي والسياسي، والاعتراف بالدولة الوطنية في كل من تونس والمغرب. وفي حالة استلهام مصر تجربتي تونس والمغرب، يصبح السؤال عن كيفية إطلاق مسار ديمقراطي تعدّدي يتطور باستمرار، وقادر على استعادة القوة السياسية الفعالة في المجتمع من الدولة العميقة بمكوناتها وتحالفاتها، وفي مقدمتها المؤسستان الأمنية والعسكرية، والإخوان المسلمون بتحالفاتهم، وبقايا النظام القديم (الفلول)، لمن لم يستوعبهم نظام "3 يوليو" والقوى المدنية بتعدادتهم وقوة التغيير، خصوصا الشباب منهم. وهدف المسار الديمقراطي هو الحفاظ على الدولة المصرية، 
بتجديد مؤسساتها، وإصلاح هياكلها، بما يضمن بناء نظام سياسي مستقل، مستقر قادر على أن يلبي الحاجات العامة للمصريين. وطريق البداية لهذا المسار، من وجهة نظري، تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة، في يونيو/ حزيران 2018، حيث يجب أن تستشعر الدولة العميقة، ومؤسساتها التاريخية، دورها في جلب الاستقرار، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، وتقدّم مرشحا جديدا قادرا على إرسال إشارات إيجابية إلى جميع التشكيلات في المشهد المصري، والقوى الإقليمية والدولية، مع قدرته على إطلاق هذا المسار الديمقراطي، ورعايته والمحافظة على البعد التشاركي التعدّدي فيه، وتطويره بما يساعد القوى السياسية المصرية على إعادة الاندماج في المشهد العام، بعد الاتفاق على حد أدنى من القواعد التي يجب أن تحكم المشهد.
ومميزات هذا الحل: تحقيق الاستقرار لمصر، لأن الإصلاح يتم من داخل الدولة، وبرعاية المؤسسة العسكرية، وضمانها، وإلا فإن نهايات نظام "3 يوليو" تظل مفتوحة. تحقيق مصالح المؤسسة العسكرية، ولكن وفق استراتيجيات جديدة عن تلك التي ينتجها هذا النظام. توفر الحد الأدنى من الشروط اللازمة لمعالجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، فلا انطلاق للاقتصاد المصري إلا بالاستقرار. رفع غطاء الشرعية عن الراديكاليات الضيقة، فالمتوقع، في ظل صيغة الحكم الحالية، انتشار العنف بدرجةٍ لا تتحملها مصر الواهنة، ولا أجهزتها المنهكة. عودة "الإخوان المسلمين" إلى المشهد، باعتبارهم قوة استقرار، فغياب القيادة الحالية يحل أكثر من 70% من مشكلاتهم مع النظام المستهدف بناؤه. ويخفف هذا الحل حدة التوترات الطائفية، ويقلل من العنف ضد المسيحيين المصريين، ويرسل إشارات إيجابية للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالاستقرار في مصر، بما يساعد على تقديم الدعم اللازم للنظام الجديد.
BB977A11-1563-4A3A-A086-7485A187A2AD
BB977A11-1563-4A3A-A086-7485A187A2AD
هشام جعفر

باحث وصحافي مصري معتقل، رئيس مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية، وكبير مستشاري المركز الإقليمي للوساطة والحوار.

هشام جعفر