07 نوفمبر 2024
الأمن وصناعة الإرهاب في مصر
حادثان فصلت بينهما أيام قليلة، عاشتهما مصر أخيراً، تفجير كنيسة البطرسية في القاهرة الذي راح ضحيته 28 شخصاً، وقد أعلنت السلطات أن منفذه هو محمود شفيق محمد مصطفى (22 عاماً)، وتنفيذ حكم الإعدام في عادل حبارة بتهمة قتله 25 جندياً مصرياً فيما تعرف "مذبحة رفح الثانية" عام 2013.
سنفترض، في البداية، أن روايتي الأمن في الحادثين صحيحتان، بمعنى أن حبارة مسؤول فعلا عن قتل الجنود، وأن محمود شفيق هو من قام بتفجير نفسه داخل الكنيسة، وهي رواية يدعمها إعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مسؤوليته عن العملية، لكن المهم الآن هو رؤية كيف تسببت أجهزة الأمن المصرية في ذلك كله.
على الرغم من أن أجهزة الأمن زعمت، في البداية، أن عادل حبارة اعترف بقتل الجنود، إلا أنه عاد وتراجع عن أقواله، مؤكدا أنها جرت تحت التعذيب، وهو ما يحدث فعلاً مع آلاف من المعتقلين الذين يضطرون لقول أي شيء، فقط ليتخلصوا من وطأة التعذيب عليهم. لكن، حتى لو افترضنا صحة الاتهام المنسوب إلى حبارة، فقد روى الأخير، في التحقيقات وفي مقطع فيديو، قصته منذ البداية، ليتضح أنه كان مواطنا عاديا يعمل في مهن بسيطة، ليكسب قوت يومه، باستثناء اعتناقه بعض أفكار متشدّدة لم يضعها موضع التنفيذ على الإطلاق، حتى اصطدم برجل أمن برتبة أمين شرطة، فقط لأن الأخير لم تعجبه لحية حبارة، فقرّر مضايقته، وأبلغ "أمن الدولة" عنه. وتم عمل ملف له لدى الأجهزة الأمنية التي هدّدته باعتقال زوجته، إذا لم يسلم نفسه في إحدى حملات الاعتقال "الدورية" التي ينفذها الأمن، لتلفيق القضايا لمن يريد، ليقرّر الهروب والحياة في مكان آخر، لكن قوات الأمن تقبض عليه، وتضربه وتهينه وتعذبه، وتلفق له تهمة "شروع في قتل"، ويحكم عليه بالسجن عاماً، حتى قامت الثورة، وهو في السجن ليهرب منه. وبعدها واصل أمين الشرطة مطاردة حبارة، حتى تم اتهامه في قضية قتل أحد المخبرين، ليذهب إلى سيناء، إما للانضمام إلى الجماعات المتشدّدة، وفقا لرواية الأمن، أو للاختباء من القضية الملفقة ضده بقتل المخبر، وفقا لروايات مدافعين عنه. وفي الحالتين، نحن أمام مشهد واضح وصريح لإيجاد الإرهاب وصناعته، إما بتزييف التهم وتلفيقها، أو بالظلم والافتراء على حبارة والتضييق عليه، وانتهاك حرمة بيته، ودفعه دفعاً للتخطيط للانتقام ممن قلبوا حياته رأسا على عقب، وجعلوها جحيما، وحولوه من مجرد شخص عادي، يحاول البحث عن مستقبله والزواج من حبيبته، إلى شخصٍ متشدّد يقوم بتكفير الآخرين، ويرى جواز قتلهم، حتى لو كان هناك خلافٌ في صحة مسؤوليته عن قتل الجنود.
دور آخر لا يقل قذارةً عن دور أجهزة الأمن، قامت به ما تسمى "وسائل الإعلام" الموالية
للنظام، لم تكتف بالتحريض على كل من يعارض النظام، لكنها اختلقت افتراءات عديدة على حبارة، ونقلت على لسانه كلاماً لم يقله، وزعمت أنه اعترف، على الرغم من أن اعترافاً كهذا لم يحدث، وزعم إعلاميون أنه مسؤول ليس فقط عن مذبحة رفح الثانية، بل عن الأولى أيضاً، والتي لم يجرؤ أحد من مسؤولي الدولة على اتهام أحد بالمسؤولية عنها. كما حاولت وسائل الإعلام أيضا الربط بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، فقط لمحاولة إثبات أن "الإخوان" لا يختلفون عن "داعش"، مع أن حبارة يرى مرسي "طاغوتاً" كما حسني مبارك، بل إنه يرى أن مبارك كان أفضل من مرسي! ومع ذلك، حاولوا، بكل صفاقةٍ، اتهام جماعة سلميةٍ بانتهاج العنف، وهو منهجٌ مستمد من وزارة الداخلية التي تتهم "الإخوان" بأنهم المسؤولون عن كل حوادث العنف، مع أن تنظيم داعش هو الذي يعلن مسؤوليته عن معظم تلك الحوادث.
أما الشاب محمود شفيق المتهم بتفجير الكنيسة البطرسية، فقد كان ذاهباً في يوم لمتابعة أحد دروسه، في إحدى مدارس التعليم الصناعي الثانوي، وتصادف مروره بجوار مظاهرة معارضةٍ للنظام، ليتم القبض عليه، وتلفيق قضية حيازة سلاح آلي وقنابل يدوية له، ولأحد زملائه، وهي تعتبر من القضايا الخطيرة في مصر، ويحكم عليه بالسجن سنتين، ويتعرّض لأبشع أنواع التعذيب والانتهاكات، حتى إن الصورة الرسمية التي نشرتها وزارة الداخلية، في ذلك الوقت، لمحمود، بعد القبض عليه، أظهرت كدمات وجروحاً عديدة في وجهه، ما يشي بتعرّضه للضرب الشديد والتعذيب، كما تعرّض محمود لانتهاكاتٍ جنسية، كما أكدت والدته في حوار مع "رويترز"، والتي قالت إن ابنها عاد مكسوراً معنوياً من قسم الشرطة، وظل يبكي طوال الليل، ليسافر بعد الإفراج عنه إلى السودان، وينتهي به المطاف مفجراً نفسه في كنيسة، معتقدا بذلك أنه ينتقم ممن ظلموه، وحولوه من مجرد طالبٍ يرغب في التخرّج من الجامعة وإعالة أسرته إلى مجرمٍ يقتل الأبرياء.
لم يكتف الأمن المصري بما فعله مع محمود، بل ينوي، على ما يبدو، تحويل شقيقيه إلى نسختين أخريين منه، إذ كان يحتجز أحد أشقائه، وألقى القبض على شقيقٍ ثان بعد حادث تفجير الكنيسة، ويبدو مصيرهما مجهوليْن، لكن التوقعات تفيد بأنه سيتم تلفيق اتهامات لهما بمساعدة شقيقهم في العملية، ويعلم الله وحده ما يتعرّض له الاثنان في محبسيهما، وهل سيلحقان بشقيقهما أم لا.
كثيرا ما نكتب كلاماً عاماً ومعتاداً ومكرّرا، تحت عناوين فخمة وبراقة، من قبيل "دور الأمن في صناعة الإرهاب" أو "الانتهاكات التي يتعرّض لها المعتقلون داخل السجون وأقسام الشرطة"، لكن قصصا بسيطة، مثل قصتي عادل حبارة ومحمود شفيق تقول كل شيء، وتؤكد أن الظلم والاستبداد سينتجان مزيداً ومزيداً من حبارة وشفيق.
سنفترض، في البداية، أن روايتي الأمن في الحادثين صحيحتان، بمعنى أن حبارة مسؤول فعلا عن قتل الجنود، وأن محمود شفيق هو من قام بتفجير نفسه داخل الكنيسة، وهي رواية يدعمها إعلان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مسؤوليته عن العملية، لكن المهم الآن هو رؤية كيف تسببت أجهزة الأمن المصرية في ذلك كله.
على الرغم من أن أجهزة الأمن زعمت، في البداية، أن عادل حبارة اعترف بقتل الجنود، إلا أنه عاد وتراجع عن أقواله، مؤكدا أنها جرت تحت التعذيب، وهو ما يحدث فعلاً مع آلاف من المعتقلين الذين يضطرون لقول أي شيء، فقط ليتخلصوا من وطأة التعذيب عليهم. لكن، حتى لو افترضنا صحة الاتهام المنسوب إلى حبارة، فقد روى الأخير، في التحقيقات وفي مقطع فيديو، قصته منذ البداية، ليتضح أنه كان مواطنا عاديا يعمل في مهن بسيطة، ليكسب قوت يومه، باستثناء اعتناقه بعض أفكار متشدّدة لم يضعها موضع التنفيذ على الإطلاق، حتى اصطدم برجل أمن برتبة أمين شرطة، فقط لأن الأخير لم تعجبه لحية حبارة، فقرّر مضايقته، وأبلغ "أمن الدولة" عنه. وتم عمل ملف له لدى الأجهزة الأمنية التي هدّدته باعتقال زوجته، إذا لم يسلم نفسه في إحدى حملات الاعتقال "الدورية" التي ينفذها الأمن، لتلفيق القضايا لمن يريد، ليقرّر الهروب والحياة في مكان آخر، لكن قوات الأمن تقبض عليه، وتضربه وتهينه وتعذبه، وتلفق له تهمة "شروع في قتل"، ويحكم عليه بالسجن عاماً، حتى قامت الثورة، وهو في السجن ليهرب منه. وبعدها واصل أمين الشرطة مطاردة حبارة، حتى تم اتهامه في قضية قتل أحد المخبرين، ليذهب إلى سيناء، إما للانضمام إلى الجماعات المتشدّدة، وفقا لرواية الأمن، أو للاختباء من القضية الملفقة ضده بقتل المخبر، وفقا لروايات مدافعين عنه. وفي الحالتين، نحن أمام مشهد واضح وصريح لإيجاد الإرهاب وصناعته، إما بتزييف التهم وتلفيقها، أو بالظلم والافتراء على حبارة والتضييق عليه، وانتهاك حرمة بيته، ودفعه دفعاً للتخطيط للانتقام ممن قلبوا حياته رأسا على عقب، وجعلوها جحيما، وحولوه من مجرد شخص عادي، يحاول البحث عن مستقبله والزواج من حبيبته، إلى شخصٍ متشدّد يقوم بتكفير الآخرين، ويرى جواز قتلهم، حتى لو كان هناك خلافٌ في صحة مسؤوليته عن قتل الجنود.
دور آخر لا يقل قذارةً عن دور أجهزة الأمن، قامت به ما تسمى "وسائل الإعلام" الموالية
أما الشاب محمود شفيق المتهم بتفجير الكنيسة البطرسية، فقد كان ذاهباً في يوم لمتابعة أحد دروسه، في إحدى مدارس التعليم الصناعي الثانوي، وتصادف مروره بجوار مظاهرة معارضةٍ للنظام، ليتم القبض عليه، وتلفيق قضية حيازة سلاح آلي وقنابل يدوية له، ولأحد زملائه، وهي تعتبر من القضايا الخطيرة في مصر، ويحكم عليه بالسجن سنتين، ويتعرّض لأبشع أنواع التعذيب والانتهاكات، حتى إن الصورة الرسمية التي نشرتها وزارة الداخلية، في ذلك الوقت، لمحمود، بعد القبض عليه، أظهرت كدمات وجروحاً عديدة في وجهه، ما يشي بتعرّضه للضرب الشديد والتعذيب، كما تعرّض محمود لانتهاكاتٍ جنسية، كما أكدت والدته في حوار مع "رويترز"، والتي قالت إن ابنها عاد مكسوراً معنوياً من قسم الشرطة، وظل يبكي طوال الليل، ليسافر بعد الإفراج عنه إلى السودان، وينتهي به المطاف مفجراً نفسه في كنيسة، معتقدا بذلك أنه ينتقم ممن ظلموه، وحولوه من مجرد طالبٍ يرغب في التخرّج من الجامعة وإعالة أسرته إلى مجرمٍ يقتل الأبرياء.
لم يكتف الأمن المصري بما فعله مع محمود، بل ينوي، على ما يبدو، تحويل شقيقيه إلى نسختين أخريين منه، إذ كان يحتجز أحد أشقائه، وألقى القبض على شقيقٍ ثان بعد حادث تفجير الكنيسة، ويبدو مصيرهما مجهوليْن، لكن التوقعات تفيد بأنه سيتم تلفيق اتهامات لهما بمساعدة شقيقهم في العملية، ويعلم الله وحده ما يتعرّض له الاثنان في محبسيهما، وهل سيلحقان بشقيقهما أم لا.
كثيرا ما نكتب كلاماً عاماً ومعتاداً ومكرّرا، تحت عناوين فخمة وبراقة، من قبيل "دور الأمن في صناعة الإرهاب" أو "الانتهاكات التي يتعرّض لها المعتقلون داخل السجون وأقسام الشرطة"، لكن قصصا بسيطة، مثل قصتي عادل حبارة ومحمود شفيق تقول كل شيء، وتؤكد أن الظلم والاستبداد سينتجان مزيداً ومزيداً من حبارة وشفيق.