الأفغاني مؤسساً داعش!
بات واضحاً أن حركات ما اصطلح، في جديد الثقافة العربية، على تسميته "الإسلام السياسي"، التي حلمت كلها بإقامة "الدولة الإسلامية"، إنما تنتمي في التاريخ العربي المعاصر إلى المسألة الحضارية، لا الدينية. إنها تعبير عن أزمة المشروع النهضوي العربي وفشله، لا عن التفكير الديني بالثواب والعقاب، أو هي، بتعبير برهان غليون، "بنتُ الحداثة المجهضة"، الساعية إلى تعويض الفشل في إنجاز الحداثة، باستدعاء الماضي وتوسّله، حلاً حضارياً وأملاً بمكان تحت الشمس بين الأمم.
لكن، من أين جاءت فكرة استدعاء الماضي تعويضاً عن الفشل في دخول العصر، تلك التي سادت في تاريخنا السياسي المعاصر منذ التشكيلات السياسية الأولى التي تسمّت بالإسلام، مروراً بـ"الصحوة" و"المد" المنسوبين إلى الإسلام، وصولاً إلى الحركات الأكثر تشدداً من "القاعدة" إلى "داعش"؟
كانت فكرة الدخول إلى العصر الشغل الشاغل لرجل الدين النابغ، الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873)، الذي نظّر بنجاح للأفكار النهضوية المعاصرة، المتعلقة بالسياسة، كالمواطنة وصلة الناس بالدولة، والمتعلقة بالمجتمع وسلوكه وقيمه. لم يكن ثمة حديث عن استدعاء الماضي وتوسله "نموذجاً"، حتى جاء الاستعمار العسكري الأوروبي، في منتصف القرن التاسع عشر، ومعه الوجه البشع لحداثة أوروبا وقوتها القاهرة، فطال "الوجه الحسن" ما طال "الوجه البشع"، وصارت أوروبا خصماً، ولم تعد فكرة التحديث على الطريقة الأوروبية التي قال بها الطهطاوي مقبولة من دون التفكير بتلك القوة القاهرة ونتائجها الاستعمارية المهينة.
المهم، بالنسبة لنا، أن ذلك الواقع الجديد لم يعطّل جهود التحديث وحسب، بل مكّن خصوم تلك الجهود من امتلاك شرعية نقدها ورفضها، والظهور، لا باعتبارهم رافضين لعملية التحديث، بل باعتبارهم مقاومين للاستعمار. أليس هذا ما تدّعيه كل حركات الإسلام السياسي، حتى اليوم، في خطابها عن الاستعمار والامبريالية ونتائجهما، كالحدود بين الدول العربية، والشعوب المرتدة، والأنظمة الممالئة للمستعمر؟ أليست كلها تتحدث عن مشروع "نهضوي" جاهز، قوامه
العودة إلى تراث المسلمين وسلفهم، وإعادة إحياء نموذجهم الذي مكّنهم قديماً من بناء دول قوية وجيوش منتصرة؟
هذا الرد الأيديولوجي السلفي على الاستعمار، المتمحور حول القضية الحضارية، لا المشغول بالتفكير الديني التقليدي، تأسس فعلياً على يد جمال الدين الأفغاني (1839 ـ 1897). كانت أفكار الأفغاني تمثّل حالة متقدمة عن السلفية التقليدية، ولهذا، اعتبرت سلفيته "إصلاحية"، قياساً إليها، لكنها، بالطبع، لم تكن كذلك بالنسبة للمبادئ التأسيسية التي صيغت بها الأفكار الأولى للنهضة (يرى محمد عابد الجابري، في "المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية"، أن مشروع الأفغاني هيمن على الفكر السلفي الحديث). وفي مجلة "العروة الوثقى" التي أصدرها الأفغاني في العام 1884، مع تلميذه محمد عبده، تجلّت أيديولوجية الرد السلفي على الاستعمار، إذ تخصصت المجلة في تحليل طموحات الاستعمار في العالم الإسلامي، ومسألة ضعف المسلمين وتفككهم. كتب الأفغاني، في أحد أعداد المجلة الثمانية عشر، مقترحاً حلاً لأزمة الأمة: ".. فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان عليه في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية.. وجمع الكلمة وبيع الأرواح لشرف الأمة".
بالطبع، سيكون الانتقال من أفكار الطهطاوي النهضوية إلى الأفكار البديلة السائدة اليوم عن "الدولة الإسلامية"، الطارحة حلاً حضارياً لتخلّفنا وهواننا، تدريجياً وبطيئاً، بحيث لن يرى من لا يعتقد بوحدة التاريخ العربي وتكامله، منذ بدايات أفكار التحديث والإصلاح والنهضة، إلى اليوم، ترابطاً بين ذلك التراجع الأول، الذي كان جمال الدين الأفغاني أول من قرره، في سياق سعيه إلى مقاومة الاستعمار الأوروبي، وما يحدث في التاريخ العربي المعاصر، اليوم، من انهيار فرص النهضة، وتقوّض أسس المشروع النهضوي، واستبداله بأفكار "القاعدة" و"داعش" الخارجة عن العصر.
من "الموضوعية" أن نلاحظ، على الطرف الآخر، أن الردّة السلفية ليست متفردة في أثرها السلبي على المشروع النهضوي العربي، بل كان للتيارات التي أرادت تقليد نموذج أوروبا بحذافيره، بعد أن صدمتها قوّة الاستعمار الأوروبي، الأثر نفسه. هكذا ظل العالم العربي يفكر خارج احتياجاته وظروفه وواقعه وشروطه المعاصرة: سواء عبر أدلجة التراث والماضي واعتبارهما نموذجاً بديلاً لمشروع نهضوي عربي معاصر، أو عبر أدلجة الحداثة الأوروبية، واعتبارها مرشداً بديلاً لا يقبل شريكاً. وفي كل الأحوال، بات العرب، وسيظلون، حتى يستيقظوا على كونهم "عرباً" و"معاصرين"، رهناً للتبعية إلى آخرين: سواء عاشوا في زمان سابق، أو يعيشون في مكان آخر!