الأغلبية المقهورة

17 اغسطس 2016
+ الخط -
يسمونهم في الجزائر "الحيطيست"، لكثرة وقوفهم عند الحيطان. يسمونهم في مصر شباب المقاهي، لكثرة جلوسهم على كراسي قتل الوقت طوال النهار. يسمونهم في المغرب الشباب المعطل لقلة شغلهم وكثرة يأسهم. يطلق عليهم في تونس شباب الفيسبوك الذي يهاجر افتراضياً إلى عالم آخر... وهكذا، يشكل حزب الشباب العاطل واليائس والغاضب الأغلبية في البلدان العربية والمغاربية. ومع ذلك، هي أغلبية بلا صوت ولا تأثير في القرار.
قبل خمس سنوات، زلزل هؤلاء الشباب كراسي الرؤساء العرب، وبعثوا رسائل إنذار إلى الملوك والأمراء بأن صبرهم قريب من النفاذ، وأنهم سيغادرون قريباً حزب الكنبة. تحرّكوا عفوياً بعدما لم يكن أحد ينتظر انتفاضتهم الناعمة، لكن الواقع الخشن أفشل ثورتهم، مع أنها لم تكن لا خضراء (إسلامية) ولا حمراء (شيوعية). ولم تحمل لا رايةً ناصرية ولا بعثيةً ولا اشتراكيةً ولا قومية، كانت صرخةً بريئةً رفعت شعار محمد البوعزيزي (خبز حرية وكرامة) لكن ثورة الشباب، مثل كل الثورات، سُرقت. مرّة بالاحتواء وأخرى بالإجهاض وثالثة بالعسكرة والحرب الأهلية، صار الربيع خريفاً، وانزوى الشباب العربي الذي حرّك المياه الراكدة إلى ركن بعيد، يتفرّج على إجهاض مبادرات إصلاح الأنظمة العربية من داخلها.
في كل البلدان العربية، تشكل فئة الشباب الأغلبية المطلقة، شباب وشابات في زهرة العمر وقمة اليأس، شريحة عمرية في أوجه العطاء الافتراضي وقمة اليأس الواقعي. في كل دول العالم، يشكل الشباب رأسمالاً بشرياً، يشحن محركات التنمية إلا في العالم العربي، حيث يشكّل الشباب عبئاً على الأنظمة السلطوية، ومصدر خوفٍ وقلقٍ للحكام العرب. لهؤلاء أسبابهم الوجيهة في هذا الخوف من شبابٍ متعلم أكثر من آبائه، وشباب يتقن استعمال وسائل التواصل الحديثة، علاوة على نقده السلطة السياسية والدينية في مجتمعه. هذه كلها مبرّرات تجعل من الشباب العربي العدو الأول للأنظمة السياسية، والعدو الأول للنماذج الاقتصادية الريعية، أو الخدماتية المتبعة في جل الدول العربية، حيث الأنظمة السلطوية الجامدة تمنع المحرك الديمقراطي من الاشتغال للبحث عن نخبٍ جديدة وأفكار جديدة ومشاريع جديدة للخروج من التخلف والتبعية.
لسنوات طويلة، ترك الشباب لمصيرهم، ولم تكن الدولة العربية تتذكّرهم سوى في المناسبات وخطب الأعياد الوطنية، وها هي النتيجة أمامنا جيوش العاطلين، تحاصر المدن العربية، وتنتظر الفرصة لإخراج البركان الذي يختمر في نفوسها.
قبل شهر، كنت في المحكمة لحضور جلسة محاكمة الجريدة، التي أترأس تحريرها، في القاعة المخصصة للصحافة في الدار البيضاء، فوجدت القاعة مملوءة بشبابٍ لم نعتد رؤيتهم، نحن الصحافيين، فيها، فظننت أني أخطأت العنوان، حتى نبهني زميل إلى أنني في العنوان الصحيح، وأن من أراهم من شباب ملتح وشابات منقبات هم من أنصار شيخٍ سلفي يُحاكم بتهمة القذف والسب والإخراج من الملة، وجاؤوا بكثافة، لمساندته ودعمه. الرجال بلحى كثيفة وسراويل قصيرة وزي أفغاني، ما لم تعتد عليه تقاليد اللباس في المغرب، والنساء في برقع أسود. وجميعهم يظهرون وكأنهم خرجوا من مسلسل عن الجهاد الأفغاني، وسيعودون إلى حياتهم الطبيعية بعد قليل. إنهم يهربون من واقع قاسٍ إلى نموذج افتراضي، وعلق أحد الزملاء الصحافيين على مظهرهم، وسأل: من أين خرج هؤلاء؟ ومتى تشكل وعيهم؟ وكيف يتبعون شيخاً متطرفاً لا ينتمي إلى العصر الذي نعيشه؟
قلت له: هذا منتوج محلي، ولد هنا وكبر هنا وسيموت هنا. وإذا كان مظهره يقلقك، وفكره يخيفك، ونموذجه في الحياة لا يعجبك، فيجب أن تسأل عن المقدمات لا عن النتائج، عن التربية التي كبر فيها هذا النمط من التفكير، لا عن الأغصان التي تمتد إلى السماء. هؤلاء، يا زميلي، شبابٌ سُدّت في وجههم أبواب الدنيا، فراحوا يتطلعون إلى الآخرة، وفقدوا القدوة في حاضرهم، فراحوا يبحثون عنها في ماضيهم وتراثهم، من دون أن يميزوا الحي من الميت فيه. إنهم ليسوا ممثلين، إنهم بشر من دم ولحم وإحساس ومشاعر وأحلام، ولا بد لهم من اعتناق فكر أو مذهب أو أيديولوجيا تعطي لحياتهم معنى، وتعطي لموتهم معنى، وتعطي ليأسهم معنى.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.