الأزمات تكبّل ترامب: التحقيقات الروسية تُكمل ما جناه الجدار

10 يناير 2019
سعى ترامب إلى حشد تأييد الأميركيين لخطته (ساندي هافكر/Getty)
+ الخط -
تبدو إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مكبّلة بالأزمات من كل اتجاه، داخلياً وخارجياً. أزمة الإغلاق الحكومي تشلّ منذ 19 يوماً قسماً من الإدارات الفدرالية، فيما الشواغر في وزارات أساسية لا تزال على حالها. وفي الوقت نفسه، يتفاقم مأزق قرار الانسحاب من سورية، ونشأت عنه أزمة مع تركيا. وفي ظل كل هذه الصعوبات، بدأت التحقيقات حول التدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية تكشف عن خلاصات محرجة لترامب، كان آخرها اتهام مدير حملته الانتخابية، بول مانافورت، بتزويد جهات روسية بمعلومات عن سير الحملة الانتخابية. وفي ظل إصرار ترامب على السير في مخططه لبناء جدار على الحدود مع المكسيك، من دون أن يقدّم أي اقتراح جديد لدفع معارضيه لقبول مقترحه، يبقى أمامه خيار إعلان "حالة طوارئ استثنائية"، تمنحه صلاحية إصدار أمر بتنفيذ مشروعه من دون موافقة الكونغرس، وبما يسمح له بتحويل المبلغ المطلوب من موازنة البنتاغون التي سبق أن جرى إقرارها، للبدء في بناء الجدار. لكن هذا التصعيد من شأنه إشعال الوضع السياسي في واشنطن، في ظل تصعيد خصومه الديمقراطيين ضده.

وفي كلمة ألقاها مساء الثلاثاء، سعى ترامب بحزم إلى حشد تأييد الأميركيين لخطته القاضية ببناء جدار على الحدود مع المكسيك لمواجهة ما اعتبره "أزمة إنسانية وأمنية". وفي أول كلمة إلى الأمة يلقيها من المكتب البيضاوي واستغرقت تسع دقائق، حذّر ترامب من المهاجرين غير القانونيين الذين اتهمهم بإراقة "دماء أميركية"، لكنه عدل عن إعلان "حالة طوارئ استثنائية". وردّد ترامب الحجج التي يكررها منذ أسابيع في تغريداته، مثيراً ردود فعل حادة من الديمقراطيين الذين يتهمونه بإثارة الخوف بشكل غير مسؤول وبإطالة أمد الأزمة حول الميزانية. وقال ترامب متوجهاً إلى الأميركيين من أشهر قاعات البيت الأبيض التي ألقى منها رؤساء سابقون كلمات تاريخية، مثل كلمة جون كينيدي خلال أزمة الصواريخ السوفييتية في كوبا، "أخاطبكم هذا المساء لأننا نشهد أزمة إنسانية وأمنية متزايدة على حدودنا الجنوبيّة". وطالب مرة جديدة بتخصيص 5,7 مليارات دولار لإقامة "حاجز من الفولاذ بدلاً من جدار إسمنتي". وحمّل الرئيس في خطابه أخصامه الديمقراطيين المسؤولية عن "الإغلاق الحكومي" الذي يشلّ منذ أكثر من أسبوعين قسماً من الإدارات الفدرالية في البلاد، متّهماً هؤلاء بأنهم "يرفضون تمويل أمن الحدود".
وتساءل محاولاً كسب الرأي العام لقضيته "كم من الدماء الأميركية ينبغي أن تراق قبل أن يقوم الكونغرس بواجبه؟"، وتابع "على مر السنين، قتل آلاف الأميركيين بوحشية بأيدي أشخاص دخلوا بلادنا بصورة غير قانونية، وستُزهَق آلاف الأرواح الأخرى إن لم نتحرك فوراً".

في المقابل، جاء الرد قاسياً من خصومه الديمقراطيين، إذ اتهمته رئيسة مجلس النواب الأميركي، الديمقراطية نانسي بيلوسي، باحتجاز الأميركيين "رهائن" بواسطة "الإغلاق الحكومي". وبعيد دقائق من خطاب ترامب إلى الأمة، قالت بيلوسي "يجب أن يتوقف الرئيس ترامب عن احتجاز الأميركيين رهائن، وعن تصعيد الأزمة، ويجب أن يعيد فتح الحكومة". وأضافت في خطاب بث مباشرة على الهواء وقد وقف إلى جانبها زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، أنّ "الرئيس استخدم لتوه المكتب البيضاوي لفبركة أزمة وإشاعة الخوف وصرف الانتباه عن الفوضى التي تعمّ إدارته". وبحسب بيلوسي، فإنّ "الحقيقة هي أن النساء والأطفال على الحدود لا يشكّلون خطراً على الأمن، بل يشكلون تحدياً إنسانياً، وهو تحدّ زادته استفحالاً سياسات الرئيس القاسية وغير المثمرة".

من جهته، قال شومر رداً على ترامب "لا تخطئن الظن أبداً: الديمقراطيون والرئيس يريدون جميعاً تعزيز الأمن على الحدود، لكننا في الوقت نفسه مختلفون في العمق مع الرئيس على الطريق الأكثر فعالية لفعل ذلك". وكان بناء الجدار من أبرز وعود حملة ترامب الانتخابية، وقد وعد بجدار إسمنتي تدفع المكسيك كلفته، غير أن هذا المشروع بقي حتى الآن حبراً على ورق، إذ يرفض الديمقراطيون تخصيص الأموال لمشروع يعتبرونه "من القرون الوسطى". وصدرت عن ترامب خلال الحملة الانتخابية ومنذ توليه السلطة قبل سنتين رسائل مختلفة بل متناقضة في بعض الأحيان حول طول الجدار الذي يريد بناءه ونوعيته. ويتحدث منذ بعض الوقت عن جدار مصنوع من الألواح الفولاذية وليس من الإسمنت، على أمل أن يقبل الديمقراطيون بمشروعه، غير أنهم لم يتجاوبوا إطلاقاً مع هذه الصيغة الجديدة. ويزور ترامب اليوم الخميس الحدود الجنوبية "للقاء الذين هم في الخطوط الأمامية" لما يصفها بأنها "أزمة أمن قومي".


ومع إصرار ترامب، وبتحريض من المحافظين والمتشددين، على مطالبة الكونغرس بتخصيص مبلغ 5,7 مليارات دولار كدفعة لمشروع الجدار في الموازنة، كشرط لتمريرها، مقابل رفض الحزب الديمقراطي الطلب من منطلق أن الجدار غير ضروري، يستمر الإغلاق الحكومي منذ 19 يوماً، ويجد حوالي 800 ألف موظف فدرالي أنفسهم مرغمين إما على لزوم منازلهم، أو العمل من دون تقاضي رواتب بانتظار نهاية الإغلاق الحكومي. ويقترب الإغلاق من تحطيم الرقم القياسي المسجل بين نهاية 1995 ومطلع 1996، حين أغلقت الحكومة لمدة 21 يوماً في عهد الرئيس بيل كلينتون.

لكن الحقيقة التي يعرفها كثيرون في واشنطن أن المشكلة ليست مالية، وأن الجدار الحدودي لا يجرى التمسك به لأهميته الأمنية المشكوك فيها. المشكلة أن ترامب ارتبط بوعد انتخابي لا يقوى على ترجمته، ولا يحظى بحماسة حتى في صفوف الجمهوريين التقليديين. الجناح المحافظ الذي لا يستغني ترامب عن دعمه، حثّ على وجوب تمرير المشروع عشية انطلاق حملة انتخابات 2020. لكن فوز الحزب الديمقراطي بالأغلبية في مجلس النواب في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وضع بناء الجدار في منزلة شبه المستحيل. والآن صار التراجع أصعب وباتت المخارج أبعد.

في ظل هذا الواقع، يجد ترامب نفسه أمام خيارات صعبة، ففي حال إعلانه حالة الطوارئ، فهو مهدد بإجراءات قانونية ضده، كما هدد الديمقراطيون ومعارضون آخرون لبناء الجدار، قائلين إنه يستخدم مزاعم زائفة ويفتعل أزمة لتنفيذ تعهده الانتخابي. لكن الديمقراطيين يعارضون ليس مواد الإنشاء فحسب، وإنما حجم المشروع الذي قد تصل كلفته إلى 24 مليار دولار على المدى الطويل.
وإذا لجأ ترامب لحالة الطوارئ، فذلك التصعيد من شأنه شل العلاقة مع الكونغرس، وفتح باب مقاضاة خيار الرئيس لإبطاله بحجة عدم دستوريته. محاكمة قد تطول لعدة أسابيع أو أشهر وربما أكثر، مع كل ما يترتب عليها من إرباك لإدارة صارت مكبّلة بالأزمات. ففيما تتفاقم أزمة الإغلاق، وصلت التحقيقات حول التدخّل الروسي إلى اتهام بول مانافورت بالكذب "وتزويد جهات روسية بمعلومات عن سير الحملة الانتخابية"، وهي تهمة إذا ثبتت من شأنها تعزيز الشبهة حول وجود تواطؤ بين الحملة والروس، مع طرح تساؤلات عما إذا كان ترامب علم مسبقاً بهذا التنسيق مع الروس. وفي الوقت نفسه، ما زالت الشواغر في وزارات أساسية على حالها، بعد موجة الإقالات والاستقالات التي تلاحقت، خصوصاً في أواخر العام الماضي وبما ضاعف الفوضى في صناعة القرار وزاد من المخاوف بشأن عملية التعاطي مع الملفات والاستحقاقات المقبلة، خصوصاً إذا ما طالت مشكلة الإغلاق الحكومي.

المساهمون