15 سبتمبر 2023
الأردن.. مبادرة لندن والمجتمع الغاضب
عادت الحكومة الأردنية من اجتماعات مؤتمر "مبادرة لندن"، الداعم للأردن، بمزيد من الوعود بالدعم المالي، سواء بشكل قروض طويلة الأمد قليلة الفائدة، أو دعم تمويل مشاريع تنموية، كما قالت وزيرة التخطيط، ميري قعوار، في تصريحاتٍ، سبقها تفاؤل كبير لرئيس الحكومة عمر الرزاز، الذي قال "إن هاجس إدارة الأزمة المالية صار خلف ظهرنا".
كلّ ذلك التفاؤل سبق وأن بشّر به المسؤولون الأردنيون المجتمع في فبراير/ شباط 2016، والذي اعتبر آنذاك بمثابة طوق نجاة للأردن، كي ينتشله من أزمته الاقتصادية التي بقيت ولم تراوح مكانها. آنذاك، صدرت وعود بمنح وقروض بمليارات، ويومها أطلّ رئيس الحكومة، عبدالله النسور، في مؤتمر صحافي مؤكداً أنه نتجت عن مؤتمر لندن للمانحين وعود بمساعدات منح وقروض، لافتاً إلى "أهمية الاستفادة من هذه الفرصة واستثمارها".
ربما لا يختلف حديث النسور قبل نحو ثلاثة أعوام عن حديث الرزاز اليوم، الثناء والتفاؤل هما اللازمان الوحيدان والاستطاعة الممكنة، في بلد يعج بالتحدّيات والظروف الصعبة والقاسية، منذ قيامه، وهو بلدٌ تشكل اقتصاده وبنيانه على الدعم الخارجي منذ التأسيس، لكنه اليوم بعد مائة عام ممتلئ بالكفاءات والبطالة والفقر، والغضب الذي بات عنوان العلاقة بين الأطراف الواثبة والراغبة بالزحف تجاه عمان.
يقول صحافي وناشط أردني، مبرراً شعور أبناء الأطراف بالضيم والفقر والتهميش، في مطلع الخمسينيات، إن أهالي قرية مليح في محافظة مأدبا، القريبة من عمان، أرادوا إنشاء مدرسة، فأحضروا معلمي بناء حجر من الضفة الغربية، ثم ذهبوا إلى وزارة المعارف لطلب تعيين معلم، فردّت الوزراة بأنه لا يوجد مخصص مالي، وأنها تستطيع المساهمة بتوفير الكتب فقط،
فاستقر رأي أهل القرية على جمع المال وتعيين معلم يتقاضى راتبه منهم، وهكذا بنوا مستقبل أبنائهم. وهذه قصة مشابهة لغالبية الريف الأردني وتحولاته في التعليم، لكن محمد يعود فيقول: اليوم أبناء قرية مليح، في لواء ذيبان، على مقربة منهم يوجد طلاب في مدارس دولية يدفع الطالب فيها قسطا سنويا قيمته 25 ألف دينار (35 ألف دولار)، في إشارة إلى وجه الصراع المعتمل راهنيا في المجتمع، والذي يأخذ منحى طبقياً، وشعورا بالمظلومية.
في مقابل هذا الصراع الاجتماعي، لا تكفّ جماهير المتعطلين عن الإعلان عن تنظيم مسيرات نحو عمّان صوب الديوان الملكي، وتؤكّد الحكومة أنها عرضت عليهم فرص عمل، وأنهم رفضوا بعضها، ولدى بعضهم ضعفٌ في القدرات والمهارات، لكن الحلول التي تقدّم بصيغة
عروض تشغيل وتسويات لن تكون مرضيةً للكل، ولن تنهي الغضب الذي ما زال أولياً ومرشحا للزيادة.
تواجه الحكومة تحدياً عميقاً، في ظل تعمق أزمات الاقتصاد، وشيوع الفساد، والتعويل على المساعدات، بمعنى أن في إدارة الموارد الوطنية أزمة، وهناك محاولة جادة من الدولة اليوم لتقليل الإنفاق، وقد عملت حكومة الزراز على إنجاز بعض الملفات، ومنها قانون الضريبة ودمج بعض المؤسسات، والبدء بمحاربة التهرّب الضريبي والجمركي، وتحاول جلب فرص استثمارية لحل مشكة البطالة وتحسين قدرة الاقتصاد.
وفي مقابل السوادية الكبيرة عند جمهور أردني عريض، هناك أمل محدود بحدوث تغيير إيجابي، إذا تكللت وعود مؤتمر لندن بالإنجاز على الأرض، وإذا عملت الحكومة على ضخ مشاريع تستوعب البطالة في الأطراف التي تشهد نضوباً في ثقتها بالحكومة، وهذا أمر طبيعي لأي حكومةٍ تحاول أن تغير النهج الاقتصادي، وتأخذ الناس إلى دولة الإنتاج وسيادة القانون كما تقول، وهو هدفٌ يبدو صعب المنال راهنياً.
لكن، ما الذي يحول دون ذلك؟ الجواب لا يتم بسهولة كبيرة، فهناك مجتمعٌ تضخم بشكل كبير، وبلد استوعب ملايين من البشر فوق طاقته منذ عام 1990، حيث بدت أزماته المالية أكبر من أن تُعالج بتغيير حكومي أو تعديل، فثمّة بلدٌ في عمق الأعاصير الإقليمية، وثمّة تأثير لتلك الأزمات الإقليمية عليه مباشرة، وهناك التحولات التي يشهدها المجتمع في بنيته، طولا وعرضاً، بالإضافة إلى تأخر حدوث الإصلاح السياسي الذي كان يمكن له أن يتطوّر جيدا بعد عام 1990، ولكن تمت إعاقته.
في ظلّ تعثر الحكومات في الأزمات المتلاحقة، ومع ارتفاع منسوب الغضب والصراع الاجتماعي، بفعل غياب التنمية والطبقية السائدة اليوم، وسياسات الهوية غير المحسومة، واتباع
نهج الترضية وتعمّق قوة البنى التقليدية، باتت المؤسسة الملكية اليوم الملاذ الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه، خصوصا وأن الاستجابة من الحكومات العابرة للأزمات المحلية تتعمّق تردّداً وتأخراً كلّ مرة وتنتج مزيدا من الأخطاء، فصار هاجس أبناء الأطراف تحقيق المكاسب اللحظية.
هنا، يسأل المدقق في المشهد الأردني، كيف لبلدٍ ذهب نحو انتخابات مجالس حكم لامركزية محلية قبل عام، قيل يومها إنها سوف تسهم في حل معضلة التنمية وتجعل الناس يخططون لأولوياتهم، وتخفّف الضغط عن العاصمة والحكومة، أن ينتهي اليوم إلى مشاهد متكرّرة لمسيرات المتعطلين نحو عمان، بالإضافة إلى تكرار صدور البيانات العشائرية تطلب الزحف إلى العاصمة؟
يكمن الجواب في عمق التجربة الديمقراطية والتخطيط الذي لم يستند إلى فحص دقيق، فاللامركزية يجب أن يسبقها إصلاح سياسي عام، بالإضافة إلا أنها يجب أن تأتي بعد تفهم عميق لشكل الدولة المنشود، مع دراسة الوضع في الأطراف وغياب العدالة في الفرص، وتكدّس المتعلمين من خريجي الجامعات، والفشل في إحداث تغيير ملموس في خيارات التعليم لمرحلة ما بعد الثانوية، لكي يتجه الشباب نحو التعليم التقني بجدّية وريادة مستحقة.
في الأردن، اليوم جيل كامل يعادل من هم تحت سن العشرين سنة، فيه نسبة ثلث السكان، منهم نحو مليوني طالب في المدارس والجامعات، وكل هؤلاء ينتظرون مستقبلاً غير مرئي، ولا بدّ من أجل الحيلولة دون أي انفجار اجتماعي أن يجري التفكير جيداً بماذا يدرسون وكيف يدرسون، وما هي الصيغ الأمثل لعدم التحاقهم بركب اليأس والبطالة المقيتة. ذلك أن المنح الخارجية لا تصيبهم، ولا تغير في واقعهم، بل على العكس تزيدهم فقراً ويأساً.
ربما لا يختلف حديث النسور قبل نحو ثلاثة أعوام عن حديث الرزاز اليوم، الثناء والتفاؤل هما اللازمان الوحيدان والاستطاعة الممكنة، في بلد يعج بالتحدّيات والظروف الصعبة والقاسية، منذ قيامه، وهو بلدٌ تشكل اقتصاده وبنيانه على الدعم الخارجي منذ التأسيس، لكنه اليوم بعد مائة عام ممتلئ بالكفاءات والبطالة والفقر، والغضب الذي بات عنوان العلاقة بين الأطراف الواثبة والراغبة بالزحف تجاه عمان.
يقول صحافي وناشط أردني، مبرراً شعور أبناء الأطراف بالضيم والفقر والتهميش، في مطلع الخمسينيات، إن أهالي قرية مليح في محافظة مأدبا، القريبة من عمان، أرادوا إنشاء مدرسة، فأحضروا معلمي بناء حجر من الضفة الغربية، ثم ذهبوا إلى وزارة المعارف لطلب تعيين معلم، فردّت الوزراة بأنه لا يوجد مخصص مالي، وأنها تستطيع المساهمة بتوفير الكتب فقط،
في مقابل هذا الصراع الاجتماعي، لا تكفّ جماهير المتعطلين عن الإعلان عن تنظيم مسيرات نحو عمّان صوب الديوان الملكي، وتؤكّد الحكومة أنها عرضت عليهم فرص عمل، وأنهم رفضوا بعضها، ولدى بعضهم ضعفٌ في القدرات والمهارات، لكن الحلول التي تقدّم بصيغة
عروض تشغيل وتسويات لن تكون مرضيةً للكل، ولن تنهي الغضب الذي ما زال أولياً ومرشحا للزيادة.
تواجه الحكومة تحدياً عميقاً، في ظل تعمق أزمات الاقتصاد، وشيوع الفساد، والتعويل على المساعدات، بمعنى أن في إدارة الموارد الوطنية أزمة، وهناك محاولة جادة من الدولة اليوم لتقليل الإنفاق، وقد عملت حكومة الزراز على إنجاز بعض الملفات، ومنها قانون الضريبة ودمج بعض المؤسسات، والبدء بمحاربة التهرّب الضريبي والجمركي، وتحاول جلب فرص استثمارية لحل مشكة البطالة وتحسين قدرة الاقتصاد.
وفي مقابل السوادية الكبيرة عند جمهور أردني عريض، هناك أمل محدود بحدوث تغيير إيجابي، إذا تكللت وعود مؤتمر لندن بالإنجاز على الأرض، وإذا عملت الحكومة على ضخ مشاريع تستوعب البطالة في الأطراف التي تشهد نضوباً في ثقتها بالحكومة، وهذا أمر طبيعي لأي حكومةٍ تحاول أن تغير النهج الاقتصادي، وتأخذ الناس إلى دولة الإنتاج وسيادة القانون كما تقول، وهو هدفٌ يبدو صعب المنال راهنياً.
لكن، ما الذي يحول دون ذلك؟ الجواب لا يتم بسهولة كبيرة، فهناك مجتمعٌ تضخم بشكل كبير، وبلد استوعب ملايين من البشر فوق طاقته منذ عام 1990، حيث بدت أزماته المالية أكبر من أن تُعالج بتغيير حكومي أو تعديل، فثمّة بلدٌ في عمق الأعاصير الإقليمية، وثمّة تأثير لتلك الأزمات الإقليمية عليه مباشرة، وهناك التحولات التي يشهدها المجتمع في بنيته، طولا وعرضاً، بالإضافة إلى تأخر حدوث الإصلاح السياسي الذي كان يمكن له أن يتطوّر جيدا بعد عام 1990، ولكن تمت إعاقته.
في ظلّ تعثر الحكومات في الأزمات المتلاحقة، ومع ارتفاع منسوب الغضب والصراع الاجتماعي، بفعل غياب التنمية والطبقية السائدة اليوم، وسياسات الهوية غير المحسومة، واتباع
هنا، يسأل المدقق في المشهد الأردني، كيف لبلدٍ ذهب نحو انتخابات مجالس حكم لامركزية محلية قبل عام، قيل يومها إنها سوف تسهم في حل معضلة التنمية وتجعل الناس يخططون لأولوياتهم، وتخفّف الضغط عن العاصمة والحكومة، أن ينتهي اليوم إلى مشاهد متكرّرة لمسيرات المتعطلين نحو عمان، بالإضافة إلى تكرار صدور البيانات العشائرية تطلب الزحف إلى العاصمة؟
يكمن الجواب في عمق التجربة الديمقراطية والتخطيط الذي لم يستند إلى فحص دقيق، فاللامركزية يجب أن يسبقها إصلاح سياسي عام، بالإضافة إلا أنها يجب أن تأتي بعد تفهم عميق لشكل الدولة المنشود، مع دراسة الوضع في الأطراف وغياب العدالة في الفرص، وتكدّس المتعلمين من خريجي الجامعات، والفشل في إحداث تغيير ملموس في خيارات التعليم لمرحلة ما بعد الثانوية، لكي يتجه الشباب نحو التعليم التقني بجدّية وريادة مستحقة.
في الأردن، اليوم جيل كامل يعادل من هم تحت سن العشرين سنة، فيه نسبة ثلث السكان، منهم نحو مليوني طالب في المدارس والجامعات، وكل هؤلاء ينتظرون مستقبلاً غير مرئي، ولا بدّ من أجل الحيلولة دون أي انفجار اجتماعي أن يجري التفكير جيداً بماذا يدرسون وكيف يدرسون، وما هي الصيغ الأمثل لعدم التحاقهم بركب اليأس والبطالة المقيتة. ذلك أن المنح الخارجية لا تصيبهم، ولا تغير في واقعهم، بل على العكس تزيدهم فقراً ويأساً.