الأردن.. ثقة تنضب وتدخل ملكي وبيان للإصلاح

08 فبراير 2019
+ الخط -
دخل الأردن مزاجاً شعبياً ممتلئاً بالغضب، مرشحا للازدياد، فلم تكد الإرادة الملكية توشّح قانون العفو العام الذي صدر الإثنين الماضي، والذي كان ممكنا أن يُلبي مطالب عدد من المحتجين، والمنادين بالحريات، وإشاعة العدالة ويخفف الاحتقان الشعبي، حتى تصاعد غضب الرأي العام، ضد قرارات لحكومة عمر الرزاز بتعيينات لقيادات عُليا، حسبت أنها سداد دين لنوابٍ بتعيين أشقائهم ومحاسيبهم في مقابل منحهم حكومة الرزاز الثقة. وليرتفع الجدل والرفض الشعبي عبر منصات التواصل الاجتماعي، فيتدخل الملك عبدالله الثاني، ويزور دار رئاسة الوزراء، داعياً الحكومة إلى إعادة النظر والتأكد من سلامة التعيينات، وهو ما وعد به الرزاز بعد تلكؤ مجلس النواب في جلسته الرقابية مساء الأربعاء الماضي التي أثار النواب فيها الأسئلة التي طرحها الناس على حكومةٍ دعت إلى الأمل والنهضة الوطنية ودولة الإنتاج ومحاربة المحسوبية.
أعادت قرارات حكومة الرزاز أخيرا في ما سميت "صفقة التعيينات النيابية"، وموقف الملك منها، إلى الذاكرة موقف الراحل الملك حسين من حكومة عبدالكريم الكباريتي (1996- 1997) والذي حظي بدعم ملكي مبدئي، بعد قرار حكومته رفع أسعار الخبز صيف 1996، آنذاك دخل الملك الحسين المؤتمر الصحافي مع الكباريتي مادحاً ومؤيداً إياه، وبعد أسبوع أقاله في قمة شعور الكباريتي بانتصاره.
الذهاب الملكي ظهيرة الثلاثاء الماضي إلى دار مجلس الوزراء، وتوجيه حكومة الرزاز بتوخي العدالة، يُذكّر أيضاً بأن الملك عبدالله الثاني خاطب الشباب مطلع العام الفائت بوجوب الضغط من تحت لكي يضغط هو من فوق، واليوم تعدّى الأمر الدعوة إلى التدخل المباشر في عقلنة الحكومة وقراراتها لصالح شعبٍ معظمه شباب يشعر بالظلم والفقر وعدم العدالة وشيوع الوساطة، فيما يشبعهم الرزاز أحاديث عن ضرورة تغيير الثقة التقليدية، ووجوب الأمل والتخلي عن اليأس.
ظهيرة الأربعاء أيضاً دعت جمعية الشؤون الدولية التي يرأسها رئيس الوزراء الأسبق، عبد 
السلام المجالي، وبحضور ثمان وثلاثين شخصية من خلفيات عسكرية وأكاديمية ووزراء سابقين وخبراء، ووقعوا على وثيقة سمّوها "بيان للإصلاح"، دعوا فيها إلى خطة استرتيجية للإصلاح السياسي والمالي والإداري والاجتماعي، مؤكّدين على تراجع الثقة بالدولة ومؤسساتها، وضرورة العودة إلى مسار الإصلاح السياسي الجاد، والسعي إلى حكومة حزبية أو ائتلاف أحزاب، والتخلي عن سياسات القروض وإصلاح القطاع العام وتطوير الخدمات في قطاعات الصحة والتعليم والنقل والإسكان.
ويتوافق هذا الموقف من مجموعة من الخبراء والتيار المحافظ في جمعية الشؤون الدولية وجماعات ضغط أخرى مع جملة اتجاهات داخل الدولة، ترى أن البلاد لا تسير إلى الأفضل، وأن تراكمات السنين الأخيرة مثقلة بالفشل، وهو ما أكده سابقاً تقرير حالة البلاد الصادر عن المجلس الاقتصادي الاجتماعي. والخلاصة اليوم حكومةٌ تنزف ثقةً، وشعب يسعى إلى استعادة صوته الاحتجاجي بشكل أكثر زخماً في مواجهة الرزاز وتياره المدني، وهو ما قد يحدث بشكل أكبر مع بداية الربيع.
كلّ هذا التهاوي الشعبي لصورة الرزاز المُصلح حدث في وقت قصير، بعدما حقّقت حكومته نجاحاً أوليّاً في الاقتصاد مطلع العام عبر الانفتاح على العراق وسورية، إذ جرى توقيع جملة اتفاقيات وتفاهمات مع الحكومة العراقية، تهدف إلى نقل البضائع وتسهيل حركة التجارة، وتفعيل اتفاق خط النفط الناقل بين العقبة والبصرة الذي سيحدث نقلةً نوعية في الأردن، عنوانها انتهاء أزمة الطاقة الضاغطة على ماليّة الدولة، هذا بالإضافة إلى التوافق على مسألة الديون القديمة للأردن على العراق بتسهيلات وسلع معفاة من الرسوم، وتفعيل خط طيران بغداد عمّان بشراكة أكثر فاعلية بين شركة الملكية الأردنية والخطوط العراقية، وافتتاح منطقة حرّة مشتركة بين البلدين.
المسار نحو الجوار العراقي والسوري دُعِمَ بزيارة الملك عبدالله الثاني بغداد أخيرا. وبالتوازي مع ذلك التحرّك، بدأت سلسلة زيارات لوفود أردنية سورية مشتركة تجارية ونقابية وبرلمانية،
 بهدف كسر البرود بين البلدين، وسَعَت الوفود الاقتصادية الأردنية إلى تسجيل سبق اقتصادي أردني في ملف إعمار سورية التي يشكّل فتح معبر جابر الحدودي مع الأردن مطلباً أردنياً ومصلحة عليا لتنشيط حركة البيع، وهو أمرٌ طلبه أهالي مدينة الرمثا الحدودية مع سورية العاهل الأردني في زيارته أخيرا لهم، ليرد الملك عليهم" فتح الحدود مع سورية من طرفنا لا يوجد مشكلة، بل هناك مشكلات فنية عند الإخوة السوريين"، وسبق ذلك تعيين قائم أردني بالأعمال في دمشق.
ولكن المشهد الداخلي اليوم يبدو أكثر تعقيداً، مع بدء عوارض الركود الاقتصادي في البلد، وانتشار ظاهرة إغلاق المحلات والبيع بسعر الكلفة لبعض السلع. هذا إلى جانب قلة السيولة في الأسواق، وهو أمر بات يحذّر من تداعياته تجار وخبراء اقتصاد. ويضغط هذا كله على الحكومة الأردنية التي تجد أن انعكاس إجراءاتها الاقتصادية لن يكون آنياً، ولن تكون تداعيات تلك الإجراءات والقوانين شعبوياً سهلة، بل هي أكثر صعوبة، إذ يرى التيار الوطني المحافظ والقوى الشعبية أن حكومة الرزاز لم تأتِ بحلول للاقتصاد، بل عمّقت أزمات البلد بمزيد من الاقتراض الخارجي.
وأياً كانت الرؤية الشعبية غير دقيقة، ويمكن للحكومة أن تدحضها وتردّ عليها بالأرقام التي تتحدث عن انخافضٍ طفيف لا يذكر في العجز، فإن المطبخ السياسي للدولة لا يريد بتاتاً عودة الحراك، خصوصا بعد أن أنجزت حكومة الرزاز غاية الدولة المتمثلة بقانون الضريبة، والذي مهدّ الطريق أمام نجاح الحكومة بالاقتراض الأكبر تاريخياً من البنك الدولي، ومع أن ذلك الإنجاز تحسبه الحكومة نجاحاً، إلا أن جملة مضاعفات اجتماعية واقتصادية توحي ببدء تململ الحكم ومجلس النواب من الحكومة، وهو ما قد يعجّل برحيلها.
خارجياً، خلال الأسابيع الماضية، تحرّك الأردن بفاعلية أكثر في الملفات الإقليمية، فلا افتراضات ثابتة بخصوص السياسة الخارجية، وهي سياسةٌ تشهد تحولاً كبيراً بزيارة العاهل الأردني تركيا وتونس، الدولتين الأقرب إلى الخط السياسي لدولة قطر، وبهذا يجسّد الأردن بداية جديدة لخياراته السياسية الخارجية، معناها أن المصالح وحدها تحكُمه، وأن السياسة لا تعرف ثبات الخيارات، بل هي متعدلة باستمرار.
أن يزور ملك الأردن تونس البلد الذي بشّر بالربيع العربي، وحركة النهضة فيه جزء من 
الحكم، وكذلك تركيا الأردوغانية، معنى ذلك أن الخروج من الخيارات الثابتة في السياسات الإقليمية بات مسألة وقت لا أكثر، يحدث هذا في ظل تحولاتٍ في المشهد الفلسطيني، وفي الرؤية الأميركية للمسألة السورية، وهناك حديثٌ بين النخب السياسية، يحمل توقعاتٍ بانتشار أميركي على مناطق محدّدة في الحدود الجنوبية لسورية مع الأردن.
بالعودة إلى الداخل الأردني، يمكن القول إن ثمة محاولات لتطويق تمدّد التيار المدني، وأن هذه المحاولات مدعومة، وتلقى ترحيباً شعبياً من القواعد التقليدية التي ترى الحكومة في ثلثيها أقرب إلى التيار المدني الذي بات أشبه بحزب حاكم في البلاد، وهو أمر لا يمكن توقع بقائه في بلد مثل الأردن، ممتلئ بالبنى التقليدية، وفيه تياران، عروبي وإسلامي مؤثران، ويرفضان هيمنة النموذج الليبرالي المدني بوضوح، هذا إلى جانب القوى المحافظة التي أرسلت رسائل نقد كثيرة إلى حكومة الرزاز، وهو ما أكّدته نتائج استطلاع الرأي الصادر أخيرا عن مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وأشارت إلى تدنٍّ غير مسبوق للثقة في الحكومة ورئيسها وبزمن قياسي.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.