09 نوفمبر 2024
الأردن.. استنفار اجتماعي وسياسي ضد "جريمة البقعة"
خيّم على الأردن والأردنيين جوٌّ من الصدمة والذهول، ما أن تسرّبت أنباء عن جريمة قتلٍ، أودت بخمسة جنود من منتسبي المخابرات العامة، يعملون في مكتب خاص للجهاز في مخيم البقعة شمال عمّان. مبعث الصدمة أن الجريمة وقعت بدون مقدماتٍ، فلم تسبقها أحداثٌ ما، أو توتراتٌ تؤدي إليها. كما أن وقوع الجريمة، في الساعات الأولى ليوم الإثنين الأول من شهر رمضان الذي يتفاءل به الناس عادةً، ويقتربون فيه من بعضهم بعضاً، ضاعف من شعور الصدمة، حيال جريمةٍ تمت بدمٍ باردٍ، ولم تتم الإشارة إلى وقوع اشتباكٍ في البيانات الرسمية، بما ينبئ أنه قد تمت مغافلة الضحايا، وهم نيام بعد تناول وجبة السحور (قبل السابعة صباحاً ببضع دقائق). وقد تم تشييع الشهداء الخمسة في مواكب مهيبة، وبمشاركة شعبية ورسمية.
على الرغم من حظر النشر، إلا أن مواقع إخبارية محلية نشرت صورة للمشتبه به، محمد مشارفة (22 عاماً). وقد وصفت البيانات الرسمية الجريمة طبقاً للمؤشرات الأولى بأنها فردية ومعزولة، غير أن ذلك لم يطفئ الفضول الشديد حيال ضرورة التعرّف على دوافع الجريمة وظروفها.
يعتبر هذا الحادث الإرهابي الأخطر منذ وقوع جريمة الفنادق، قبل أكثر من عشر سنوات، التي اتهم أبو مصعب الزرقاوي بتدبيرها، ومنذ اغتيال تنظيم داعش الإرهابي الطيار معاذ الكساسبة حرقاً. وقد نجح الأردن في تحصين أوضاعه الأمنية الداخلية ضد أي ارتداداتٍ للأحداث في الإقليم، وخصوصاً في سورية والعراق. وسبق وقوع هذه الجريمة بأسابيع وقوع اشتباكات مع خليةٍ إرهابية في إربد شمال البلاد، لجأت إلى بنايةٍ سكنيةٍ، واعتصم أفرادها فيها، وكانت تخطط للقيام بعمليات تفجيرية.
وبمقارنةٍ مع دول الإقليم: مصر والسعودية ولبنان، أحبط الأردن باستمرار محاولات تمدّد جماعاتٍ سلفيةٍ مسلحة، وخصوصاً "داعش" الذي لم يكتم مخططاته للتسلل إلى الأردن، وسبق أن أطلق تهديداتٍ بهذا الخصوص.
تتعلق الصدمة المشار إليها أيضاً بمكان وقوع الجريمة في منطقةٍ بين مخيم البقعة ومنطقة عين الباشا. والمخيم قائم منذ 1967. وقد سارع رئيس الوزراء الأسبق، طاهر المصري، بعد ساعات من وقوع الجريمة للتحذير من أن يكون غرضها، وفي المكان الذي وقعت فيه بالذات، ينطوي على محاولةٍ لإيقاد فتنة. وقد سارع والد المشتبه به إلى التبرؤ منه، ومما ارتكبه، وكذلك فعل النائب السابق مصطفى ياغي (خال المشتبه به)، وامتد الأمر إلى عشائر بير السبع التي ينتمي إليها المشتبه به. وقد لوحظ قدرٌ عالٍ من الانضباط في الشارع، وعدم وقوع أية مظاهر انفعالية منفلتة، وذلك نتيجة التحسّس العام بأن أي انفلاتٍ سوف يخدم أهداف المرتكبين والمخططين لهذه الجريمة، ويعكّر الصفو الأهلي، ويُربك عمل الأجهزة الأمنية. كما سارعت الأحزاب، على اختلافها، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، إلى التنديد بالجريمة بأوضح العبارات القاطعة.
وفي هذا السياق، حمل وزير الاتصال، الدكتور محمد المومني، على ما اعتبرها سقطة مهنية وأخلاقية لوكالة رويترز التي بثت خبر الجريمة بعنوان: الحكومة الأردنية: مقتل خمسة في هجوم على مخيم فلسطيني! وهي سقطة غريبة بالفعل على وكالةٍ عريقةٍ مثل رويترز (والكلام هنا ليس للوزير)، ولا يقع فيها إلا محرر مبتدئ، أو صحافي مُغرض يعبث بأبسط القواعد الحاكمة للمهنة من أجل بث مزاعم مغلوطة ذات هوىً سياسي. ويكشف الانتقاد الشديد الذي أبداه الناطق الرسمي حجم التحسّس من تسخير الإعلام للمساس بالوحدة الوطنية الداخلية، أو محاولة بث الإثارة، طمعاً في مكسبٍ مهنيٍّ آنيٍّ رخيص.
الشعور العام بعد ارتكاب الجريمة هو ترقّب وقائع محاكمة المشتبه به، وانتظار ما سوف تكشف عنه من أسرار وخفايا تتعلق بالجريمة، أو بمخططات أخرى ذات صلة. وعلى الأغلب، أن يتم التحضير للمحاكمة وعقدها، بعد اكتمال أركانها بغير تأخير، من أجل إجلاء الغموض الذي اكتنفها، وتفادياً للبلبلة وازدهار الشائعات التي تسري في مثل هذه الظرف الاستثنائي.
والراجح أن الأداء الأمني سوف يزداد فاعليةً، وقد تصحبه إجراءاتٌ جديدة في بيئاتٍ يوجد فيها متشدّدون. وفي العادة، فإن الخطط الأمنية لا تتم إذاعتها، وهي، بطبيعتها، تحمل طابعاً سريّاً.
وقعت الجريمة بعد أيام على إعلان تشكيل حكومة جديدة برئاسة هاني الملقي، وحل مجلس النواب السابع عشر، وهو ما أشاع أجواء من "الارتباك الموضوعي"، إن صحّ التعبير، غير أن سرعة القبض على المشتبه به، بعد لجوئه إلى فناء مسجد، وفي يوم ارتكاب الجريمة، بدّد حالة الارتباك، وجدّد الثقة بقدرة السلطات على تعقّب المشتبه به، في وقت قياسي، وإلقاء القبض عليه، علماً أن الأمر تم بتعاونٍ من الأهالي.
في جميع الأحوال، تعزيز القدرات الأمنية وتطويرها أمر واجب وبدهي، مع وجود حرائق مشتعلة قرب الحدود، ومع تكرار وقوع الجرائم على قلّة عددها، وبوجود عناصر وخلايا متشدّدة في الداخل ذات ارتباطات متشعبة، إضافة إلى أصحاب أجنداتٍ خارجيةٍ وولاءات خارج الحدود، وهو ما يجعل المعركة الأمنية، ابتداءً، ذات وجهةٍ سياسيةٍ، حيث يتم صون الحريات والحقوق العامة والفردية جنباً إلى جنب، مع تطوير القدرات الأمنية، وربما توسيع نطاقها. وسوف تشهد الشهور الثلاثة المقبلة حملةً انتخابيةً للبرلمان الثامن عشر، ولا شك أن الوضع الأمني سوف يحتل موضعاً بارزاً في حملات المرشحين وتجاذباتهم، وتحديد تموضعاتهم السياسية، كما في الجدل اليومي في صفوف الرأي العام، غير أن أي رفعٍ لمستوى الجهوزية الأمنية لن يؤدي، كما هو مأمول ومطلوب، سوى إلى الإعلاء من قيم التضامن الاجتماعي الواسع، والوئام الأهلي الثابت والعابر للمناطق، وتعزيز الوحدة الوطنية واحترام مبدأ المواطنة وواقعها، والسير على طريقٍ ديمقراطيٍّ يضمن الحريات، وفي مقدمها حرية التعبير، ويمنع، في الوقت نفسه، الاغتيال المعنوي، وإثارة نزعات الكراهية والبغضاء، وهو ما تعمد إليه سائر الدول المتقدّمة في عالمنا.
دفع خمسة جنودٍ دماءَهم ثمناً لزيادة تحصين البلاد، ورفع مستوى منعتها، وتمتين النسيج الاجتماعي الوطني، وهذا هو المعنى البسيط والجوهري للفداء.
على الرغم من حظر النشر، إلا أن مواقع إخبارية محلية نشرت صورة للمشتبه به، محمد مشارفة (22 عاماً). وقد وصفت البيانات الرسمية الجريمة طبقاً للمؤشرات الأولى بأنها فردية ومعزولة، غير أن ذلك لم يطفئ الفضول الشديد حيال ضرورة التعرّف على دوافع الجريمة وظروفها.
يعتبر هذا الحادث الإرهابي الأخطر منذ وقوع جريمة الفنادق، قبل أكثر من عشر سنوات، التي اتهم أبو مصعب الزرقاوي بتدبيرها، ومنذ اغتيال تنظيم داعش الإرهابي الطيار معاذ الكساسبة حرقاً. وقد نجح الأردن في تحصين أوضاعه الأمنية الداخلية ضد أي ارتداداتٍ للأحداث في الإقليم، وخصوصاً في سورية والعراق. وسبق وقوع هذه الجريمة بأسابيع وقوع اشتباكات مع خليةٍ إرهابية في إربد شمال البلاد، لجأت إلى بنايةٍ سكنيةٍ، واعتصم أفرادها فيها، وكانت تخطط للقيام بعمليات تفجيرية.
وبمقارنةٍ مع دول الإقليم: مصر والسعودية ولبنان، أحبط الأردن باستمرار محاولات تمدّد جماعاتٍ سلفيةٍ مسلحة، وخصوصاً "داعش" الذي لم يكتم مخططاته للتسلل إلى الأردن، وسبق أن أطلق تهديداتٍ بهذا الخصوص.
تتعلق الصدمة المشار إليها أيضاً بمكان وقوع الجريمة في منطقةٍ بين مخيم البقعة ومنطقة عين الباشا. والمخيم قائم منذ 1967. وقد سارع رئيس الوزراء الأسبق، طاهر المصري، بعد ساعات من وقوع الجريمة للتحذير من أن يكون غرضها، وفي المكان الذي وقعت فيه بالذات، ينطوي على محاولةٍ لإيقاد فتنة. وقد سارع والد المشتبه به إلى التبرؤ منه، ومما ارتكبه، وكذلك فعل النائب السابق مصطفى ياغي (خال المشتبه به)، وامتد الأمر إلى عشائر بير السبع التي ينتمي إليها المشتبه به. وقد لوحظ قدرٌ عالٍ من الانضباط في الشارع، وعدم وقوع أية مظاهر انفعالية منفلتة، وذلك نتيجة التحسّس العام بأن أي انفلاتٍ سوف يخدم أهداف المرتكبين والمخططين لهذه الجريمة، ويعكّر الصفو الأهلي، ويُربك عمل الأجهزة الأمنية. كما سارعت الأحزاب، على اختلافها، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، إلى التنديد بالجريمة بأوضح العبارات القاطعة.
وفي هذا السياق، حمل وزير الاتصال، الدكتور محمد المومني، على ما اعتبرها سقطة مهنية وأخلاقية لوكالة رويترز التي بثت خبر الجريمة بعنوان: الحكومة الأردنية: مقتل خمسة في هجوم على مخيم فلسطيني! وهي سقطة غريبة بالفعل على وكالةٍ عريقةٍ مثل رويترز (والكلام هنا ليس للوزير)، ولا يقع فيها إلا محرر مبتدئ، أو صحافي مُغرض يعبث بأبسط القواعد الحاكمة للمهنة من أجل بث مزاعم مغلوطة ذات هوىً سياسي. ويكشف الانتقاد الشديد الذي أبداه الناطق الرسمي حجم التحسّس من تسخير الإعلام للمساس بالوحدة الوطنية الداخلية، أو محاولة بث الإثارة، طمعاً في مكسبٍ مهنيٍّ آنيٍّ رخيص.
الشعور العام بعد ارتكاب الجريمة هو ترقّب وقائع محاكمة المشتبه به، وانتظار ما سوف تكشف عنه من أسرار وخفايا تتعلق بالجريمة، أو بمخططات أخرى ذات صلة. وعلى الأغلب، أن يتم التحضير للمحاكمة وعقدها، بعد اكتمال أركانها بغير تأخير، من أجل إجلاء الغموض الذي اكتنفها، وتفادياً للبلبلة وازدهار الشائعات التي تسري في مثل هذه الظرف الاستثنائي.
والراجح أن الأداء الأمني سوف يزداد فاعليةً، وقد تصحبه إجراءاتٌ جديدة في بيئاتٍ يوجد فيها متشدّدون. وفي العادة، فإن الخطط الأمنية لا تتم إذاعتها، وهي، بطبيعتها، تحمل طابعاً سريّاً.
وقعت الجريمة بعد أيام على إعلان تشكيل حكومة جديدة برئاسة هاني الملقي، وحل مجلس النواب السابع عشر، وهو ما أشاع أجواء من "الارتباك الموضوعي"، إن صحّ التعبير، غير أن سرعة القبض على المشتبه به، بعد لجوئه إلى فناء مسجد، وفي يوم ارتكاب الجريمة، بدّد حالة الارتباك، وجدّد الثقة بقدرة السلطات على تعقّب المشتبه به، في وقت قياسي، وإلقاء القبض عليه، علماً أن الأمر تم بتعاونٍ من الأهالي.
في جميع الأحوال، تعزيز القدرات الأمنية وتطويرها أمر واجب وبدهي، مع وجود حرائق مشتعلة قرب الحدود، ومع تكرار وقوع الجرائم على قلّة عددها، وبوجود عناصر وخلايا متشدّدة في الداخل ذات ارتباطات متشعبة، إضافة إلى أصحاب أجنداتٍ خارجيةٍ وولاءات خارج الحدود، وهو ما يجعل المعركة الأمنية، ابتداءً، ذات وجهةٍ سياسيةٍ، حيث يتم صون الحريات والحقوق العامة والفردية جنباً إلى جنب، مع تطوير القدرات الأمنية، وربما توسيع نطاقها. وسوف تشهد الشهور الثلاثة المقبلة حملةً انتخابيةً للبرلمان الثامن عشر، ولا شك أن الوضع الأمني سوف يحتل موضعاً بارزاً في حملات المرشحين وتجاذباتهم، وتحديد تموضعاتهم السياسية، كما في الجدل اليومي في صفوف الرأي العام، غير أن أي رفعٍ لمستوى الجهوزية الأمنية لن يؤدي، كما هو مأمول ومطلوب، سوى إلى الإعلاء من قيم التضامن الاجتماعي الواسع، والوئام الأهلي الثابت والعابر للمناطق، وتعزيز الوحدة الوطنية واحترام مبدأ المواطنة وواقعها، والسير على طريقٍ ديمقراطيٍّ يضمن الحريات، وفي مقدمها حرية التعبير، ويمنع، في الوقت نفسه، الاغتيال المعنوي، وإثارة نزعات الكراهية والبغضاء، وهو ما تعمد إليه سائر الدول المتقدّمة في عالمنا.
دفع خمسة جنودٍ دماءَهم ثمناً لزيادة تحصين البلاد، ورفع مستوى منعتها، وتمتين النسيج الاجتماعي الوطني، وهذا هو المعنى البسيط والجوهري للفداء.