07 اغسطس 2024
اقتصاد الجيش المصري وعلاقته بالاستبداد
تُجمع دراسات مختلفة على قيام نظام السلطة الاستبدادية في مصر منذ عام 1952، وتحديدا منذ تولي الرئيس أنور السادات الحكم في عام 1970، على ثلاثة أعمدة رئيسية، وهي الرئيس والجيش وعوائد الاقتصاد الريعية. ويقصد بذلك أن النظام السياسي المصري تحول تدريجيا إلى نظام ذي طبيعة خاصة، يقوم على منصب رئاسي شبه مطلق الصلاحيات، فوق الرقابة والقانون، ودولة قمعية تحميها مؤسساتٌ أمنيةٌ يقودها الجيش المصري، واقتصاد استبدادي يقوم على إخضاع الأغلبية واحتكار مواردها وتوزيعها على المقرّبين من السلطة، من دون الاهتمام بزيادة تلك الموارد، من خلال أي مشاريع جادّة لتطوير الاقتصاد وعلاج مشكلاته الرئيسية، كالفقر والبطالة وضعف جودة الإنتاج. اقتصاد قائم على استغلال موارد المصريين غير الإنتاجية، كالسياحة وتحويلات المغتربين وبيع القطاع العام والأراضي وعائدات قناة السويس والغاز والنفط في حالة توفرها. هذا بالإضافة إلى الديون والمنح والمساعدات الخارجية.
هذا يعني أن القوى الحامية للنظام المصري، وفي مقدمها القوات المسلحة، جزء أساسي من معادلة الحكم القائمة، نظرا إلى أنها تحمي مصالحها. حيث تشهد مصر، منذ السبعينيات تقريبا، حالةً من الاتفاق السياسي الضمني بين مؤسسات الدولة، وفي مقدمها القوات المسلحة، تقضي بالحفاظ على مصر دولة استبدادية، يرأسها رئيسٌ مطلق الصلاحيات، يعمل على توزيع موارد الدولة بشكل غير عادل، لصالح فئات بعينها تمثل العمود الفقري لنظامه وتحميه، فالقوات المسلحة المصرية تعلم، منذ 1952، أن مصر تسير في اتجاه استبدادي، وأنها أصبحت، منذ السبعينيات، من دون مشروع تنموي يذكر، وأنها باتت تعيش بالأساس على ريع الموارد التي بنتها الأجيال السابقة. ومع ذلك، ارتضت هذا النظام ودعمته، ودافعت عنه، لأنه يضمن لها معاملة خاصة، تميز أعضاءها وتحميهم على مختلف الأصعدة.
وجود نظام ديمقراطي أو رئيس يخضع للمحاسبة يعني عجزه عن توزيع موارد الدولة المحدودة
بشكلٍ يخدم فئاتٍ بعينها، ويعني أيضا وقوع تلك المؤسسات وميزانياتها تدريجيا تحت الرقابة والمحاسبة، وهو ما تفرضه تلك المؤسسات. هي تريد أن يظل النظام استبداديا، يحميه رئيسٌ مطلق الصلاحيات، قادر على منح الهبات والعطايا، وحمايتها من الخضوع تحت طائلة القانون والدستور في مقابل حمايتها له. ولعل هذا يفسر انقلاب تلك المؤسسات على حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي (رحمه الله)، بعد عام من توليه الرئاسة، لأن استمرار التحول الديمقراطي كان يعني انهيار نظام المزايا القائم.
ويذكر عزمي بشارة، في كتابه "ثورة مصر: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، أن النظام الرئاسي تكرّس في دستور عام 1956، والذي أسس لانتقال السلطة من مجلس قيادة ثورة 1952 إلى المدنيين، وأن دستور 56 أعطى الرئيس (أتى منذ ذلك الحين من الجيش) "صلاحياتٍ واسعة جدا في تعيين الوزراء وعزلهم والمشاركة في رسم السياسات العامة للدولة وصلاحيات تشريعية، كالاعتراض على مشروعات القوانين التي يجيزها مجلس الشعب ... وإصدار قوانين الطوارئ والمراسيم العامة".
ولكن حكم عبد الناصر تميز بأمرين، أنه واجه في معظمه صراعا مع مراكز القوى داخل القوات المسلحة نفسها، وخصوصا مع وزير الدفاع عبد الحكيم عامر وأنصاره، وأنه امتلك أيضا مشروعا اقتصاديا تنمويا ساهم في إحداث طفرة اقتصادية، وتحسين أوضاع فئات عديدة من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. وهنا يقول طارق البشري، في كتابه "مصر بين العصيان والتفكك" في طبعته الثانية (دار الشروق، القاهرة، 2010)، إن عبد الناصر امتلك "مشروعا سياسيا بنائيا، وذا أسلوب حركي في مواجهة مشاكل الداخل والخارج". ولذا يرفض البشري وصف نظام حكمه بالشخصنة، أو بمشروع الاستبداد والهيمنة على السلطة من خلال رئيس مطلق الصلاحيات، كما حدث منذ بداية عهد الرئيس أنور السادات. ويشير بشارة إلى دستور 1971 باعتباره دستورا "مفصليا" في "تثبيت الموقع الطاغي للرئاسة في الحكم وتوسيعه"، حيث جعل الرئيس "حكما بين السلطات، مع ممارسته الحكومة ورسم السياسات ورئاسته لها". هذا بالإضافة إلى سلطات استثنائية، كإعلان حالة الطوارئ والدعوة إلى استفتاء لحل الهيئات التشريعية. كما تمكن السادات، خلال حكمه، من القضاء على مراكز القوى داخل القوات المسلحة، لذا لم يواجه حسني مبارك عند توليه السلطة في عام 1980 تهديدا من "داخل النظام".
ويستخدم يزيد صايغ، في تقريره "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"، الصادر عن مركز كارنيغي للأبحاث في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، التواريخ نفسها، لشرح كيف تطور الدور الاقتصادي للجيش المصري. فخلال حكم عبد الناصر، تم تأسيس صناعات عسكرية، وحاولت مصانع القوات المسلحة التدخل لتوفير بعض المنتجات المحلية، لسد العجز، ولكنها فشلت، كما توغل بعض قادة الجيش في الحياة السياسية كأفراد.
ولكن السادات، وخصوصا بعد حرب 1973، وسعيه إلى التوجه نحو الولايات المتحدة، وتوقيع
اتفاقية سلام مع إسرائيل، وتخفيض ميزانية الجيش، ومنع قادته من التوغل في السياسة، أوكل لوزارة الدفاع بعض المشاريع الاقتصادية، كإعادة تأهيل مدن قناة السويس، وإنتاج احتياجاته من الغذاء والمعدّات غير القتالية. حيث "تحول تركيز النشاط الاقتصادي (للجيش) من استرضاء ضباط قادة القوات المسلحة في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل إلى ضمان مستويات معيشتهم في زمن تقليص الميزانية"، كما يذكر صايغ. ومع بداية عهد مبارك، ترسخت فكرة نشاط الجيش في توفير احتياجاته، خصوصا خلال فترة تولي المشير عبد الحليم أبو غزالة وزارة الدفاع، والذي أقاله مبارك في 1989 خوفا من تزايد شعبيته. ومع تولي الفريق محمد حسين طنطاوي وزارة الدفاع في 1991 "أثبت امتثاله التام لهدف مبارك بتهميش القوات المسلحة سياسيا"، كما "أشرف على تفش حقيقي لجمهورية الضباط"، كما يشير صايغ.
سعى مبارك، بمساعدة طنطاوي، إلى احتواء كبار الضباط، من خلال التوسع في منحهم وظائف في جهاز الدولة بعد التقاعد، والسماح للقوات المسلحة بتوسيع نشاطها الاقتصادي وإنشاء مزيد من الشركات. وهكذا بات الدور الاقتصادي للجيش والضباط الكبار لا يقتصر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، حيث توسع دور القوات المسلحة الاقتصادي السري (غير الخاضع للرقابة المدنية)، وتكونت شبكة هائلة من الضباط المتقاعدين في أجهزة الدولة والقطاع الاقتصادي.
لذا، لم يرحب الضباط بصعود جمال مبارك ورجال الأعمال المحيطين به، خلال العقد الأخير من حكم مبارك، حيث راكموا السلطة والثروة بشكل سريع وهائل. ولعب هذا دور أساسيا في دعم قادة الجيش ثورة المصريين ضد مبارك في يناير/ كانون الثاني 2011. ولكن الضباط لم يكونوا ليسمحون لأحد بالاقتراب من "عرق الجيش"، ولذلك حاربوا محاولات مختلف القوى السياسية لإخضاع ميزانية القوات المسلحة لرقابة المدنيين، كما أطاح الجيش الرئيس المنتخب في يوليو/ تموز 2013. لتبدأ بعد ذلك مرحلة توسع غير مسبوق للدور الاقتصادي للجيش، من خلال التوسع في منحه إدارة مشاريع تنموية كبرى، كتوسعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة. هذا بالإضافة إلى تعديل الدستور (2019) بشكلٍ يسمح بتوسعة الدور السياسي للجيش، والحد من استقلال القضاء، ووضعه تحت سيطرة الرئيس.
وهكذا ارتبط تطور دور الجيش الاقتصادي تاريخيا بتطور النظام السياسي وزيادة الاستبداد، فهو الثمن الذي حصل عليه الجيش كمؤسسة منذ السبعينيات في مقابل الابتعاد عن السياسة واستمرار دعمه النظام، وكلما ازداد النظام الاستبدادي ترسّخا ازداد الدور الاقتصادي للجيش توسعا، ولو على حساب غياب أي مشاريع سياسية أو تنموية جادّة، وبقاء مصر دولة غير ديمقراطية، تتقاسم نخبها ريع اقتصادها المنهك.
وجود نظام ديمقراطي أو رئيس يخضع للمحاسبة يعني عجزه عن توزيع موارد الدولة المحدودة
ويذكر عزمي بشارة، في كتابه "ثورة مصر: من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، أن النظام الرئاسي تكرّس في دستور عام 1956، والذي أسس لانتقال السلطة من مجلس قيادة ثورة 1952 إلى المدنيين، وأن دستور 56 أعطى الرئيس (أتى منذ ذلك الحين من الجيش) "صلاحياتٍ واسعة جدا في تعيين الوزراء وعزلهم والمشاركة في رسم السياسات العامة للدولة وصلاحيات تشريعية، كالاعتراض على مشروعات القوانين التي يجيزها مجلس الشعب ... وإصدار قوانين الطوارئ والمراسيم العامة".
ولكن حكم عبد الناصر تميز بأمرين، أنه واجه في معظمه صراعا مع مراكز القوى داخل القوات المسلحة نفسها، وخصوصا مع وزير الدفاع عبد الحكيم عامر وأنصاره، وأنه امتلك أيضا مشروعا اقتصاديا تنمويا ساهم في إحداث طفرة اقتصادية، وتحسين أوضاع فئات عديدة من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. وهنا يقول طارق البشري، في كتابه "مصر بين العصيان والتفكك" في طبعته الثانية (دار الشروق، القاهرة، 2010)، إن عبد الناصر امتلك "مشروعا سياسيا بنائيا، وذا أسلوب حركي في مواجهة مشاكل الداخل والخارج". ولذا يرفض البشري وصف نظام حكمه بالشخصنة، أو بمشروع الاستبداد والهيمنة على السلطة من خلال رئيس مطلق الصلاحيات، كما حدث منذ بداية عهد الرئيس أنور السادات. ويشير بشارة إلى دستور 1971 باعتباره دستورا "مفصليا" في "تثبيت الموقع الطاغي للرئاسة في الحكم وتوسيعه"، حيث جعل الرئيس "حكما بين السلطات، مع ممارسته الحكومة ورسم السياسات ورئاسته لها". هذا بالإضافة إلى سلطات استثنائية، كإعلان حالة الطوارئ والدعوة إلى استفتاء لحل الهيئات التشريعية. كما تمكن السادات، خلال حكمه، من القضاء على مراكز القوى داخل القوات المسلحة، لذا لم يواجه حسني مبارك عند توليه السلطة في عام 1980 تهديدا من "داخل النظام".
ويستخدم يزيد صايغ، في تقريره "أولياء الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري المصري"، الصادر عن مركز كارنيغي للأبحاث في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، التواريخ نفسها، لشرح كيف تطور الدور الاقتصادي للجيش المصري. فخلال حكم عبد الناصر، تم تأسيس صناعات عسكرية، وحاولت مصانع القوات المسلحة التدخل لتوفير بعض المنتجات المحلية، لسد العجز، ولكنها فشلت، كما توغل بعض قادة الجيش في الحياة السياسية كأفراد.
ولكن السادات، وخصوصا بعد حرب 1973، وسعيه إلى التوجه نحو الولايات المتحدة، وتوقيع
سعى مبارك، بمساعدة طنطاوي، إلى احتواء كبار الضباط، من خلال التوسع في منحهم وظائف في جهاز الدولة بعد التقاعد، والسماح للقوات المسلحة بتوسيع نشاطها الاقتصادي وإنشاء مزيد من الشركات. وهكذا بات الدور الاقتصادي للجيش والضباط الكبار لا يقتصر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، حيث توسع دور القوات المسلحة الاقتصادي السري (غير الخاضع للرقابة المدنية)، وتكونت شبكة هائلة من الضباط المتقاعدين في أجهزة الدولة والقطاع الاقتصادي.
لذا، لم يرحب الضباط بصعود جمال مبارك ورجال الأعمال المحيطين به، خلال العقد الأخير من حكم مبارك، حيث راكموا السلطة والثروة بشكل سريع وهائل. ولعب هذا دور أساسيا في دعم قادة الجيش ثورة المصريين ضد مبارك في يناير/ كانون الثاني 2011. ولكن الضباط لم يكونوا ليسمحون لأحد بالاقتراب من "عرق الجيش"، ولذلك حاربوا محاولات مختلف القوى السياسية لإخضاع ميزانية القوات المسلحة لرقابة المدنيين، كما أطاح الجيش الرئيس المنتخب في يوليو/ تموز 2013. لتبدأ بعد ذلك مرحلة توسع غير مسبوق للدور الاقتصادي للجيش، من خلال التوسع في منحه إدارة مشاريع تنموية كبرى، كتوسعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة. هذا بالإضافة إلى تعديل الدستور (2019) بشكلٍ يسمح بتوسعة الدور السياسي للجيش، والحد من استقلال القضاء، ووضعه تحت سيطرة الرئيس.
وهكذا ارتبط تطور دور الجيش الاقتصادي تاريخيا بتطور النظام السياسي وزيادة الاستبداد، فهو الثمن الذي حصل عليه الجيش كمؤسسة منذ السبعينيات في مقابل الابتعاد عن السياسة واستمرار دعمه النظام، وكلما ازداد النظام الاستبدادي ترسّخا ازداد الدور الاقتصادي للجيش توسعا، ولو على حساب غياب أي مشاريع سياسية أو تنموية جادّة، وبقاء مصر دولة غير ديمقراطية، تتقاسم نخبها ريع اقتصادها المنهك.