09 نوفمبر 2024
اعتراف بواشنطن عاصمة لإسرائيل
كان من الطبيعي أن تشعر الغالبية الغالبة من دول العالم بالسخط والذهول إزاء قرار الإدارة الأميركية الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال، إذ إن مكافأة المحتل المعتدي بهذا السخاء الذي لا سقف ولا ضابط له يندرج في باب اللامعقول السياسي، ويتأبّى على كل منطق. والادّعاء أن القرار جاء متأخراً يزيد من الأمر سوءاً. فالكونغرس الذي سبق أن أوصى بنقل السفارة الأميركية إلى القدس كان يدرك أن هذا القرار هو من قبيل الدخول في حائط صخري، وتَرَك للرئيس (الرؤساء) فرصة تجميده. وهو ما حدث عملياً منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 حتى يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إذ رفض الرؤساء المتعاقبون وضع القرار موضع التنفيذ. وقد أراد الرئيس دونالد ترامب الظهور بمظهر المتميز عن الرؤساء السابقين، فاندفع نحو اتخاذ هذا القرار الأخرق، متذرّعاً بأنه سبق له أن التزم بهذا الوعد في حملته الانتخابية، علماً أن الرجل الذي يخوض المعترك السياسي لأول مرة في حياته دعا، في مطلع حملته، إلى أن تتخذ بلاده موقفاً محايداً من الصراع الفلسطيني العربي/ الإسرائيلي. وقد نسي دعوته هذه كما يبدو، عقب إدراكه أن اللوبي الصهيوني في أميركا أقوى من اللوبي الأميركي في أميركا!. وأن على إدارته تقديم مصالح الاحتلال الإسرائيلي على أية مصلحة وطنية أميركية، إذا ما أراد للمركب أن يسير سيراً حسناً، وأن يطمئن إلى إمكانية ترشّحه لولاية ثانية في العام 2020، فالناخب "الإسرائيلي" في أميركا يوحي أنه هو من يرجّح الفوز أو الخسارة لمرشحي الرئاسة، على الرغم من أن ذلك غير صحيح.
لكن، ما دام السخاء الأميركي، ممثلاً بالرئيس ترامب، بلا حدٍّ ولا قيد تجاه الاحتلال
الإسرائيلي، وما دام الانحياز إلى صف الاحتلال يُشارف على الهستيريا، فلماذا لا يُهدي الرئيس الكريم لأصدقائه المتطرّفين الإسرائيليين مدينته واشنطن، كي يتخذوها عاصمة لهم، بدلاً من يكرم عليهم بالقدس التي لا يملكها، القدس مدينة ما لا يُحصى من فلسطينيين وعرب ومسلمين ومسيحيين؟ لماذا الكرم من جيوب الآخرين، وليس من الجيب الأميركي، ألا تقتضي نزاهة رجال الأعمال ذلك؟.
تبارت دول العالم في الحديث عن تعارض قرار الاعتراف ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة مع القرارات الدولية، ومع فحوى عملية السلام الشرق أوسطية المجمدة، وإلى أن طرفاً واحداً لا يمكنه تقرير مصير القدس، وهي لُب الصراع، وسبق للصهاينة أن استولوا على الجزء الغربي منها في العام 1948، خلافاً لقرار التقسيم 181 لعام 1947، ثم عمدوا إلى احتلال الجزء الشرقي لها في حربهم لعام 1967. ومع ذلك، يرى الرئيس ترامب أن من حق هؤلاء تسمية ما يستولون عليه عاصمة لهم، وهو يبارك لهم هذه اللصوصية. وفي الوقت نفسه، تلتزم الإدارة الأميركية بعملية السلام!. ولا شك أنها مزحة، تثير أي شيء في نفوس سامعيها باستثناء الابتسام، لما تنطوي عليه من استخفافٍ زائدٍ بذكاء السامعين، فعملية السلام تدور حول القدس واللاجئين والحدود، وحين يهدي البيت الأبيض القدس إلى الطرف المعتدي والمحتل، على غرار ما فعل البريطاني، آرثر بلفور، قبل مائة عام، فإنه بذلك يُجهز على العملية السلمية، ويُخرج نفسه بنفسه من أي دور فيها، وذلك بوقوفه جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، مع أعداء السلام في تل أبيب، ابتداء من حكومة نتنياهو والأحزاب الدينية والقومية في الدولة العبرية. وبما يتعلق بالسلام المغدور بين فلسطين والإسرائيليين، فإن هؤلاء يقفون في طليعة المناهضين للسلام، ويقرنون مواقفهم هذه بمواصلة سرقة الأراضي والمياه الفلسطينية، والقفز عن الاتفاقيات المبرمة مع الجانب الفلسطيني. وليس غريباً أن يشتد تطرّف هؤلاء، وقد وجدوا في البيت الأبيض من يبارك لهم تطرّفهم وإرهابهم وعنصريتهم، وحيث سبق لهم أن جرفوا في طريقهم إسحق رابين وياسر عرفات. وفي واقع الحال هذا التطرّف الإسرائيلي المرعيّ رسمياً هو الأشد خطورة في الديار الفلسطينية المقدسة، والذي يُنذر بإدامة الصراع الى قرن آخر على الأقل، علاوة على نشر مناخ مسموم في الشرق الأوسط، وفي مناطق واسعة من العالم.
والآن، تراهن إدارة ترامب (ومعها الشركاء في حكومة نتنياهو) على أن الغضبة الفلسطينية والعربية والدولية هي ذات طابع عاطفي، وسوف تهدأ بعد مضي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع،
خصوصاً إذا تم قمع موجة السخط هنا وهناك، وهي مراهنة قصيرة النظر، فالغضبة إن هدأت قد تتحول إلى أشكال أخرى من ردود الفعل، فيما يعود الصلف الإسرائيلي ليتموضع في موضعه الطبيعي، في قلب موجة الإرهاب المنظم المقنن. وما أقدم عليه ساكن البيت الأبيض هو ازدراء كل الجهود السلمية التي شاركت بها إدارات أميركية سابقة، وإعادةٌ للأمور إلى نقطة الصفر، وأن ما تصورته الإدارة الجديدة حول "عملية خلط أوراق خلاقة" ما هي إلا خلط للزيت بالنار، على غرار ما يجترحه إطفائي مهووسٌ بالإتيان بجديد في عالم الإطفاء، حين يستعيض عن استخدام الماء في عملية الإطفاء باللجوء إلى استخدام وقود البنزين، ومُعتدّاً بما يحتسبه جرأته في استخدام مواد مبتكرة وغير تقليدية في عمله.
وسوف يمثل القرار، إضافة إلى ما سبق، تحدياً لأصدقاء الولايات المتحدة في غير مكان في العالم، وبالذات في العالم العربي. فالنظام العربي الرسمي يترنّح وعلى وشك الانهيار، قبل أن يخرج الرئيس ترامب بأعجوبته هذه، وليس من شأن المساس بمكانة القدس سوى أن يضع الأنظمة بين خيار مراجعة العلاقة مع واشنطن أو مواجهة غضبة شعبيةٍ. وهو ما كان يدركه رؤساء أميركيون سابقون، وما عزّ إدراكه على الرئيس الجديد، صانع الخوارق الذي أهدى حلفاء واشنطن هدية مسمومة وملغومة، عبر هذا القرار الذي سوف يسهم في اختفاء طيف السلام، وفي زيادة التوترات، وتلطيخ صورة أميركا (الصورة التي لم تكن بيضاء من قبل)، وشحن غطرسة المتطرّفين الصهاينة الذين يستنهضون تطرفاً مقابلاً في الجانب العربي والشرق الأوسطي. وكما ترون فإنه "فيلم" أميركي طويل غير مشوّق، وليته مجرد شريط سينمائي، بل هو واقعٌ على صورة سينما رديئة، حيث تجتمع التفاهة مع التذاكي مع عنصريةٍ تدّعي الوقار.
لكن، ما دام السخاء الأميركي، ممثلاً بالرئيس ترامب، بلا حدٍّ ولا قيد تجاه الاحتلال
تبارت دول العالم في الحديث عن تعارض قرار الاعتراف ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة مع القرارات الدولية، ومع فحوى عملية السلام الشرق أوسطية المجمدة، وإلى أن طرفاً واحداً لا يمكنه تقرير مصير القدس، وهي لُب الصراع، وسبق للصهاينة أن استولوا على الجزء الغربي منها في العام 1948، خلافاً لقرار التقسيم 181 لعام 1947، ثم عمدوا إلى احتلال الجزء الشرقي لها في حربهم لعام 1967. ومع ذلك، يرى الرئيس ترامب أن من حق هؤلاء تسمية ما يستولون عليه عاصمة لهم، وهو يبارك لهم هذه اللصوصية. وفي الوقت نفسه، تلتزم الإدارة الأميركية بعملية السلام!. ولا شك أنها مزحة، تثير أي شيء في نفوس سامعيها باستثناء الابتسام، لما تنطوي عليه من استخفافٍ زائدٍ بذكاء السامعين، فعملية السلام تدور حول القدس واللاجئين والحدود، وحين يهدي البيت الأبيض القدس إلى الطرف المعتدي والمحتل، على غرار ما فعل البريطاني، آرثر بلفور، قبل مائة عام، فإنه بذلك يُجهز على العملية السلمية، ويُخرج نفسه بنفسه من أي دور فيها، وذلك بوقوفه جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، مع أعداء السلام في تل أبيب، ابتداء من حكومة نتنياهو والأحزاب الدينية والقومية في الدولة العبرية. وبما يتعلق بالسلام المغدور بين فلسطين والإسرائيليين، فإن هؤلاء يقفون في طليعة المناهضين للسلام، ويقرنون مواقفهم هذه بمواصلة سرقة الأراضي والمياه الفلسطينية، والقفز عن الاتفاقيات المبرمة مع الجانب الفلسطيني. وليس غريباً أن يشتد تطرّف هؤلاء، وقد وجدوا في البيت الأبيض من يبارك لهم تطرّفهم وإرهابهم وعنصريتهم، وحيث سبق لهم أن جرفوا في طريقهم إسحق رابين وياسر عرفات. وفي واقع الحال هذا التطرّف الإسرائيلي المرعيّ رسمياً هو الأشد خطورة في الديار الفلسطينية المقدسة، والذي يُنذر بإدامة الصراع الى قرن آخر على الأقل، علاوة على نشر مناخ مسموم في الشرق الأوسط، وفي مناطق واسعة من العالم.
والآن، تراهن إدارة ترامب (ومعها الشركاء في حكومة نتنياهو) على أن الغضبة الفلسطينية والعربية والدولية هي ذات طابع عاطفي، وسوف تهدأ بعد مضي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع،
وسوف يمثل القرار، إضافة إلى ما سبق، تحدياً لأصدقاء الولايات المتحدة في غير مكان في العالم، وبالذات في العالم العربي. فالنظام العربي الرسمي يترنّح وعلى وشك الانهيار، قبل أن يخرج الرئيس ترامب بأعجوبته هذه، وليس من شأن المساس بمكانة القدس سوى أن يضع الأنظمة بين خيار مراجعة العلاقة مع واشنطن أو مواجهة غضبة شعبيةٍ. وهو ما كان يدركه رؤساء أميركيون سابقون، وما عزّ إدراكه على الرئيس الجديد، صانع الخوارق الذي أهدى حلفاء واشنطن هدية مسمومة وملغومة، عبر هذا القرار الذي سوف يسهم في اختفاء طيف السلام، وفي زيادة التوترات، وتلطيخ صورة أميركا (الصورة التي لم تكن بيضاء من قبل)، وشحن غطرسة المتطرّفين الصهاينة الذين يستنهضون تطرفاً مقابلاً في الجانب العربي والشرق الأوسطي. وكما ترون فإنه "فيلم" أميركي طويل غير مشوّق، وليته مجرد شريط سينمائي، بل هو واقعٌ على صورة سينما رديئة، حيث تجتمع التفاهة مع التذاكي مع عنصريةٍ تدّعي الوقار.