سواء تبنى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الاعتداء الذي حصل، ليلة أمس الخميس، في مدينة نيس أم لا، فإن العملية إرهابية بامتياز، وتأتي ضمن نهج الإجرام الذي يعمل "داعش" بمقتضاه القائم على التوحش والجريمة واستهداف المدنيين. وليس مصادفة أنّه جاء بعد ساعات على تصريح الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عن قرار فرنسا بإعادة إرسال الحاملة الفرنسية شارل ديغول إلى منطقة الشرق الأوسط للمشاركة في الحملة الجوية ضد "داعش" في العراق وسورية. إلا أن هذا التصريح ليس السبب الأول والأخير لقرار "داعش" بضرب فرنسا، فالحرب باتت مفتوحة منذ جريمة صحيفة شارلي إيبدو في 7 يناير/كانون الثاني 2015.
وتشكل اعتداءات داعش في باريس نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي مفترقاً في هذه الحرب. وقد كان يمكن لفرنسا أن تتصرف على غرار دول أوروبية وغير أوروبية، أي أن تصمت أمام الإرهاب وترضخ وتدفن رأسها في الرمال، ولكن سقوط 130 قتيلاً لم يكن أمراً يمكن أن يمر من دون رد قوي؛ فتحركت باريس لتشكيل حلف دولي فعال ضد "داعش"، وزار الرئيس هولاند واشنطن وموسكو من أجل الأمر. لكنه لم يجد ذات الحماس على الخطة التي حملها وهي ذات شقين، سياسي للتحرك نحو حل سياسي سريع في سورية يقوم على رحيل بشار الأسد، وعسكري بشن حرب واسعة على "داعش" في سورية والعراق. ووفق الشق الثاني من هذه الخطة، لا يمكن لـ"داعش" أن يصمد أكثر من شهرين، وسيتم تدميره في الرقة والموصل على وجه التحديد.
هذه المقاربة تظل الأقرب إلى الواقع، وهي تحظى بإجماع قل نظيره في أوساط السياسيين والخبراء في الولايات المتحدة وأوروبا، لأنها ترد النتائج إلى الأسباب. ومنذ ثلاث سنوات، أي منذ جنيف 1 لم يبق مختص في الشأن السوري، إلا ونبه إلى أن عدم ايجاد حل في سورية يضمن رحيل الأسد سوف يؤدي إلى تعميم الإرهاب. وهناك مسألة تستحق التوقف أمامها وهي أنه كلما طال أمد بقاء بشار الأسد تراجع الاعتدال، ويضاف إلى ذلك أن موسكو بدأت تدخلها في سورية منذ سنة بالهجوم على الفصائل العسكرية المعتدلة، ولا يمر يوم من دون أن يرتكب طيرانها مجزرة بحق المدنيين، وبدلاً من أن تضغط واشنطن على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أجل وقف مشروع إعادة تعويم الأسد وتمكين إيران من سورية بعدما وضعت يدها على القرار في العراق، فإنها سائرة في سياسة تسليم المنطقة للروس والإيرانيين، وهذا أمر لن يصب في صالح الاعتدال، بل سيدفع في اتجاه التطرف ويزيد من رصيد الإرهاب والإرهابيين.
الموقف الأميركي من اعتداء نيس، لا يقل ميوعة عن مواقف الرئيس الأميركي باراك أوباما تجاه الوضع في سورية والعراق ومسؤولية إدارته عن نمو الإرهاب على النحو الذي يعرفه العالم منذ الاحتلال الأميركي للعراق وتدمير الدولة العراقية عام 2003؛ وقد اقترح الرئيس الأميركي باراك أوباما اليوم على فرنسا المساعدة في التحقيق بجريمة نيس، وكأن فرنسا ينقصها خبراء في هذا المجال. ولو كان أوباما يتمتع بقدر قليل من الجدية لما أرسل وزير خارجيته جون كيري الى موسكو يوم أمس من أجل الاتفاق مع الروس على محاربة "داعش" و"جبهة النصرة". قد يرى البعض هذه الخطوة تصب في الاتجاه الصحيح، وإذا كانت كذلك فعلاً، لماذا تأخرت واشنطن عن ذلك منذ نهاية 2012 حتى الآن؛ ففي ذلك الوقت صنفت النصرة منظمة إرهابية قبل أن يظهر "داعش" ويترعرع أمام مرأى الولايات المتحدة؟
فرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي التزمت حتى الآن بموقف واضح من ضرورة أن تكون الحرب جدية ضد "داعش"، وأن يترافق ذلك مع حل سياسي في سورية يراعي مسألة رحيل بشار الأسد. وحين أرسلت الحاملة شارل ديغول إلى المنطقة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حركت داعش الدبابير. ويؤكد خبراء سوريون وعراقيون أن الضربات المؤلمة التي تلقاها "داعش" حتى الآن هي من طرف الطيران الفرنسي، بينما تتركز الحملة الجوية الروسية ضد المعارضة المعتدلة والمدنيين. ومن هنا، فإن "داعش" يضع فرنسا على رأس أهدافه، ومنذ أيام طلب أحد قادة "داعش" من أنصاره ضرب فرنسا بشتى الوسائل، الأمر الذي يفسر استخدام الشاحنة في قتل مدنيين أبرياء.
تقول رسالة اعتداء نيس إن الإرهاب ليس في وارد التراجع، ومن يريد مواجهة هذه الظاهرة الوحشية فعليه أن يسير في طريق الحل في سورية والعراق.