تشي الحرب التي شنها مسؤولون حكوميون مصريون، وسياسيون وإعلاميون وأعضاء برلمانيون على المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات (أعلى هيئة حكومية رقابية)، بوجود أهداف خفية وراء الحملة التي تهدأ ولا تلبث أن تعود لتتجدد مع كل تصريح للرجل عن الفساد، لكن أكثر ما يثير الدهشة هو أن جنينة لم يصدر عنه أي تصريح يعارض سياسات النظام الحاكم أو ينتقد تصرفا وحيداً للسيسي، بل على العكس، لم ينل فرصة إلا وتحدث عنه بكل حفاوة ومدح.
يفسّر الدكتور أشرف الشريف المحاضر في العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في القاهرة، ظاهرة المستشار جنينة والحرب الدائرة عليه، في منشور على صفحته على موقع التواصل الإجتماعي "فيسبوك"، قائلا إن "جنينة شخص دولتي بيروقراطي مخضرم، قضى عمره المهني وتجربته الحياتية والوجودية الاجتماعية كلها داخل مؤسستين من أهم مؤسسات الدولة، الشرطة والقضاء، فبدأ حياته كضابط شرطة ثم دخل القضاء وتدرّج في مناصبه حتى وصل إلى مناصب قضائية رفيعة، وعندما خرج من سلك القضاء تولّى رئاسة أكبر جهاز رقابي حكومي مصري، بمعنى أنه ليس من شباب الثورة ولا ينتمي لحركات ثورية أو أي فصيل أو تيار سياسي وليس له صلة بالمجتمع المدني، والجهاز الذي يرأسه ويسبب تلك الأزمة هو أهم وأعرق الأجهزة الرقابية للدولة المصرية"، وهو ما يثير تساؤلات أكثر.
لكن بالبحث في تفاصيل المشهد الحالي المصري وموقع المستشار هشام جنينة فيه وعبر تتبّع تاريخه، يتضح أن الحرب عليه تُعزى إلى سببين جوهريين، الأول يتمثل في ثأر قديم بينه وبين أصحاب مراكز قوى حاليين، و"عش الدبابير"، أي الفساد الذي أدخل يده فيه.
اقرأ أيضا: مصر.. 3 تناقضات في عمل لجنة حصر أموال الإخوان
الثأر القديم
ينتمي المستشار جنينة إلى تيار استقلال القضاء، منذ بدأ تكوينه في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وكان أحد أبرز قياداته في عدة معارك كبرى ضد النظام ورجال القضاء، كان أشدها معركة الانتخابات البرلمانية في العام 2005، وقت أن كان التيار مسيطراً على نادي القضاة برئاسة المستشار زكريا عبد العزيز ووكيله هشام جنينة، بعد اتهام التيار النظام بتزوير الانتخابات، ما أدى إلى تحويل المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي قيادات التيار إلى المحاكمة، ومع حلول عام 2009 شُكلت قائمة من بعض القضاة المقربين من النظام عُرفت بـ"تيار التغيير" بزعامة المستشار أحمد الزند، والذي استطاع إلحاق الهزيمة بتيار الاستقلال ومرشحه لرئاسة النادي هشام جنينة، وهو ما علّق عليه جنينة في تصريحات صحافية بـ"المصري اليوم"، بأن الدولة قد حشدت قوتها في مواجهة تيار الاستقلال لقطع لسان النادي.
منذ ذلك الحين لم تتوقف الصراعات بين التيارين، ولا سيما بين الرجلين، والتي عززها تبادل مراكز القوة والضعف في الدولة، إذ مارس تيار التغيير دوراً كبيراً في صد هجمات تيار الاستقلال تجاه نظام مبارك، وخاصة بعد انتخابات 2010 التي وصفها جنينة في حواره مع جريدة الدستور الأصلي، بالمأساة وأن دور القضاة فيها اقتصر على وضع غطاء شرعي، حتى لا يطالب أحد بالرقابة الدولية، ومهاجماً تصريحات الزند بإبعاد نادي القضاة عن القضية وأنه ليس له أن يتدخل في وقائع التزوير، قائلاً إن الزند يريد أن يصبح القاضي عداداً للأوراق الانتخابية وأن يتعامل بمبدأ لا أرى لا أسمع لا أتكلم إزاء عمليات التزوير.
إلا أنه بعد قيام الثورة اختلف الوضع كثيراً، وعلى الرغم من سيطرة تيار الزند على نادي القضاة، إلا أنه كان في مرمى الشارع المصري الثائر وفي مقدمته قادة تيار الاستقلال لارتباطه الوثيق بنظام مبارك الذي قامت عليه الثورة، ثم علا شأن تيار الاستقلال أكثر بعد تولي محمد مرسي رئاسة الجمهورية، إذ نال العديد من رموزه مناصب هامة، كان أبرزها منصب نائب الرئيس وكذا منصب وزير العدل ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الذي تولاه جنينة.
بعد تولي جنينة رئاسة الجهاز وتحديداً في شهر أبريل/ نيسان من العام 2012، قدم للمجلس الأعلى للقضاء قضية فساد كبرى، متهماً فيها الزند بالاستيلاء مع صهره على 250 فداناً بمرسى مطروح، وهي القضية التي فجّرتها بعد ذلك بعامين بوابة الأهرام الإلكترونية. ولكن بعد تولي السيسي الرئاسة، أصبح الزند أحد أعتى مراكز القوى في مصر لعلاقته الوثيقة بأجهزة الأمن التي تدير الأمور في مصر والمتحكمة بالكامل في المشهد السياسي والإعلامي التي تحرّض على الانتقام من جنينة.
اقرأ أيضا: المحكمة الدستورية والسيسي.. لا أرى لا أسمع لا أحكم
عش الدبابير
"وضعت يدي في عش الدبابير، ولكنني سأتحمّل اللدغ"، هكذا قال جنينة في حواره مع جريدة الشروق قبل عامين، واصفاً معاركه مع الفساد داخل مؤسسات الدولة الخطيرة.
بعد تولي جنينة رئاسة الجهاز، دخل أخطر المعارك التي يمكن أن يخوضها مسؤول في مصر، ألا وهي المعركة ضد المصالح الاقتصادية الخاصة بالقوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات والتي لا يعرف أحد في مصر أو خارجها قيمتها بالتحديد، وان كانت بعض التقديرات قدّرتها بما يُعادل 40 بالمائة من اقتصاد مصر، وهو ما طالب جنينة بإخضاعه لمراقبة الجهاز، وهو ما يرفضه قادة الجيش والأجهزة رفضاً قاطعاً لما تُدر عليهم من أرباح.
خاض جنينة معارك شديدة داخل وزارتي الداخلية والعدل وضد أباطرة الفساد داخلهما، فخرج في أكثر من حوار صحافي مندداً بالفساد داخل وزارة الداخلية في قطاعات الأمن العام وديوان الوزارة وبعض اللواءات الذين وصفهم بالمنتفعين حول وزير الداخلية، والأخطر منهم جهاز الأمن الوطني الذي اتهمه بسرقة 2.5 مليار جنيه وحده، كما اتهم جهات قضائية بسرقة 3 مليارات جنيه، وذلك بجانب قضية "الحزام الأخضر" وهي قضية الاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي الدولة بلغت قرابة 35 ألف فدان، والتي اتهم فيها جنينة عدداً كبيراً من ضباط الأمن الوطني والقضاة ولواءات بالقوات المسلحة ومسؤولين كباراً سابقين وحاليين بالدولة منهم قيادات بأجهزة سيادية ورقابية، وفق ما قاله جنينة في مؤتمر صحافي مطلع عام 2014، وهو ما جلب عليه تهديدات بالقتل ذكرها جنينة في عدة مؤتمرات ولقاءات تلفزيونية لم يتم التحقيق فيها.
اقرأ أيضا: تفاصيل سقوط مروحية الجيش المصري.. العطل الفني عاد للواجهة
مسرحية الخلاص من جنينة
أصدر المستشار هشام جنينة تصريحًا حول حجم الفساد في مصر، وقدّره بمبلغ 600 مليار جنيه، وفق تقرير أعده، وقد استغل النظام هذا التصريح في صنع مسرحية للخلاص منه، فلم يتم تحويل هذا التقرير للتحقيق فيه من قبل النيابة العامة أو قاضي تحقيق، وإنما قام رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة للتحقيق في هذا التقرير كمشهد أول في المسرحية. وجاء المشهد الثاني في تشكيلة أعضاء اللجنة، وهم رئيس هيئة الرقابة الإدارية، وهي الهيئة التي تولّى نجل السيسي مركزاً قيادياً فيها وقامت بالتنكيل بأحد ضباطها بعد نجاحه في إثبات فساد المخلوع مبارك في قضية القصور الرئاسية، بالإضافة إلى المستشار هشام بدوي، وكيل الجهاز المركزي، وهو أحد رجال أحمد الزند الذي كان مساعداً له قبل أن يعيّنه السيسي أخيراً وكيلاً لجنينة والمرشح لخلافته بعد الإطاحة به، بالإضافة إلى ممثلين عن الوزارات التي يتهمها جنينة بسرقة المال العام، وهي الداخلية والعدل والمالية والتخطيط.
اختتمت المسرحية بخروج تقرير اللجنة بعد 18 يوماً فقط، كان من بينها 6 أيام عطلة، بتكذيب جنينة واتهامه بتضليل الرأي العام والإضرار بفرص مصر لجذب الاستثمارات تمهيداً للإطاحة به، وذلك بالرغم من أن ما قاله جنينة هو نفسه ما قالته هيئة الرقابة الإدارية في تقريرها المقدم للسيسي في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي.
"نحن نعيش في عصر الزند ومن يدعمه من الأجهزة الأمنية، وكل التنكيل الواقع علينا نحن وهشام جنينة، هو ثمن وقوفنا في وجه فساد مبارك والزند والأجهزة الأمنية"، هكذا علّق أحد قادة تيار الاستقلال (لم يشأ ذكر اسمه) على الأمر، في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد".