وعزا سبايسر هذه الفجوة إلى تكتّم فلين على مكالمته مع السفير الروسي، وحجب حقيقة حصولها، عن نائب الرئيس، مايك بانس، لدى استفسار الأخير بخصوصها، الأمر الذي وضع تصرّفه في خانة الكذبة التي لم يعد استمراره في موقعه الحساس يستقيم معها.
لكن سردية الرواية بهذه الصورة تثير أسئلة كثيرة وتحجب حلقات مفقودة، وأهم هذه الحلقات يتصل بالرئيس ترامب وتاريخ علمه بالمكالمة وسكوته عليها لفترة مع حجبها عن نائبه بانس، فضلاً عن دوافع الاتصال وحوافزه وتكرار الدفاع المبطّن، من جانب الرئيس ومستشاره، عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
مخاطبة السفير الروسي ليست المشكلة، فهي بحد ذاتها ليست مخالفة للقانون؛ وكان يمكن للتكتّم عليها أن يمر من دون كل هذا الاعتراض لو أنها لم تتناول مسألة العقوبات التي فرضها الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، والوعد برفعها فور تسلّم ترامب للرئاسة. فهذه مسألة تتصل بالأمن القومي ولا يجوز التعاطي معها إلا من خلال الجهات المخولة باتخاذ القرار المناسب بشأنها.
مع ذلك، لم تكن القضية لتأخذ كل هذا الصخب والزخم لولا الخلفية التي حكمتها. فالخطوة التي أقدم عليها فلين جاءت في سياق خطاب ودّي سياسياً وبصورة غير اعتيادية مع سيّد الكرملين، اعتمده الرئيس ترامب منذ بدايات حملته الانتخابية. تكرار مفرداته بوتيرة لافتة، حملت على التشكيك بدوافع هذه العلاقة غير الاعتيادية. ثم جاء انكشاف أمر القرصنة الروسية على مواقع الحزب الديمقراطي أثناء الحملة وبما بدا أنه لصالح ترامب، ليبرر التشكيك في الغزل الترامبي ــ الروسي.
وآخر المعلومات التي نشرتها "نيويورك تايمز"، مساء الثلاثاء، تفيد بأن "فريق ترامب قام أثناء الحملة الانتخابية بعدة اتصالات مع الاستخبارات الروسية"، وفق مصادر استخباراتية اعترضت هذه الاتصالات واطلعت على مضمونها.
من هنا البلبلة السائدة في البيت الأبيض كما في صفوف الجمهوريين. فالعودة إلى نغمة "متى عرف الرئيس وماذا عرف؟" تستحضر فضيحة قد تكون من العيار الثقيل تثير الأجواء الخشية من تفاقمها وانفتاحها على المجهول.
لذا، يبذل الجمهوريون قصارى جهدهم لتلافي الوصول إلى مثل هذه النقطة. لكن لا يبدو أن مثل هذه المحاولة قادرة على قفل الملف عند حدوده الراهنة. فالكونغرس خاصة الديمقراطيين فيه الذين جاءتهم هذه الاستقالة – الإقالة بمثابة هدية على طبق من فضة لتعديل الميزان السياسي ولو قليلاً لصالحهم، سارعوا إلى المطالبة بفتح تحقيق عن طريق لجنة مستقلة أو محقق خاص للوقوف على مضمون المكالمة مع السفير ودوافعها ومحتوياتها وخلفياتها، تماماً كما جرى في فضائح وأحداث من العيار الثقيل.
والمعروف أن الجنرال فلين كان على علاقة مباشرة بالرئيس بوتين الذي سبق واستضافه قبل سنتين في حفل عشاء، وقد لا يقوى الجمهوريون على إحباط هذا التوجه الديمقراطي إذا ما تواصل تدفق المعلومات المثيرة للريبة والجدل حول الدور الروسي في الانتخابات. علماً أن بعض أركانهم في مجلس الشيوخ يتوقون إلى التحري عن حقيقة "الإعجاب" المتبادل بين بوتين وكل من ترامب وفلين.
فهذه العلاقة تسببت، ولا تزال، في تزايد التوتر بين الرئيس وبين الجمهوريين في الكونغرس. والآن بعد فلين ازدادت الهواجس. فهذا التطور وضع الجمهوريين في موقع لا يحسدون عليه: من جهة يخشون من الأفظع لو توغل التحقيق، ومن جهة آخرى يتخوفون من عواقب عرقلة التحقيق، بحيث يظهرون كمن لعب دور المتواطئ فيما جرى.
نادراً ما عرفت واشنطن لحظة تختلط فيها الصدمة مع الريبة والخشية من الآتي المجهول، كما هو حالها الآن. استقالة فلين المباغتة أعادت التذكير بحالات قضى فيها اللف والدوران على أصحابه: أطاحت بريتشارد نيكسون، وكادت أن تطيح برونالد ريغان في فضيحة إيران – كونترا، ومؤخراً ساهمت في هزيمة كلينتون في معركة الرئاسة. وهي الآن تعود إلى الساحة لتطيح بالجنرال، وربما يكون "الحبل على الجرار"، ذلك أن الأزمة الراهنة ليست أزمة عناد وتفرّد المستشار فلين بقدر ما هي أزمة رئاسة.