ليس الكلام عن اعتذار الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية سعد الحريري، وتسمية شخصية أخرى مهمة تأليف الحكومة، مجرد مزايدات، يراد منها الضغط لإخراج البلاد من عنق أزمة التشكيل التي طالت. منذ أيام تردد أوساط معسكر 8 آذار بنبرة تهديد أن "الخيارات مفتوحة"، وأن احتمال استبدال الحريري وارد في حسابات رئيس الجمهورية ميشال عون. تصريحات لمّح إليها أكثر من طرف بعضهم محسوب مباشرة على عون، مثل وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية بيار رفول، وبعض آخر محسوب على النظام السوري، مثل النائب جميل السيد، وبينهما تولت أبرز صحيفة محسوبة على تحالف حزب الله – عون - النظام السوري نقل تلويح عون أنه "لن يصبر على الحريري لأكثر من مطلع سبتمبر/أيلول المقبل ليشكل الحريري الحكومة"، في إشارة إلى احتمال أن يقوم عون بتسمية شخص غير الحريري للقيام بالمهمة المعطلة منذ انتخابات 6 مايو/أيار الماضي.
لكن يبقى السؤال عن مدى جدية هذه الطروحات، خصوصاً أن الحريري بنفسه لمّح سابقاً إلى أنه في حال طلب منه الانفتاح على النظام السوري، فإنه سيتنحى، قائلاً يومها: "فليفتشوا على غيري". الأكيد أن هذه السيناريوهات باتت تردد داخل بعض الأروقة السياسية. أبعد من ذلك ثمة من يقول إن النقاش فتح جدياً على دراسة الخيارات المتاحة، وأي منها يصلح لمرحلة ما بعد الحريري.
وينطلق "التيار الوطني الحر" من هذا الموقف في تعاطيه مع الأزمة الحكومية. نجاح ما تبقى من رئاسة عون يقتضي التنسيق مع النظام السوري، وهي المهمة التي يرى "التيار" ومن خلفه "حزب الله" أنها أولوية، عبر حكومة يرأسها الحريري أو عبر حكومة أخرى.
اذاَ القرار اتخذ، لبنان في المحور الروسي – الإيراني – السوري، هذا ما قاله مواربة وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل عندما زار موسكو قبل أيام، وبعد لقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف، عندما أعلن تأييد لبنان للخطة الروسية لإعادة اللاجئين، وعندما تحدث عن دور لبنان في إعادة الإعمار، ضارباً عرض الحائط بالخلاف الروسي – الأميركي في هذا الشأن.
ما علاقة ذلك بالحكومة اللبنانية؟ تقول مصادر "العربي الجديد" إن "ثمة قناعة لدى التيار الوطني الحر أن نجاح العهد، يكمن في الانفتاح على سورية، والالتحاق بالمحور الروسي ــ الإيراني، خصوصاً أن هذا الانفتاح يمكن عبره حل أزمة اللاجئين، وكذلك دخول لبنان على خط إعمار سورية، ما يمكن تسويقه شعبياً، كما أنه سيصب في خانة نجاح العهد".
لا شك أن الحريري في موقع لا يحسد عليه. يبدو أن الرجل في عام 2018 أضعف مما كان عليه. داخل طائفته لم تعد الكلمة الفصل له، بعد نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، التي أظهرت تراجعاً ملحوظاً انعكس على حجم كتله النيابية، كما في دخول أطراف سنية أخرى إلى جنة النيابة.
حتى على الصعيد الوطني، كتلة "المستقبل" التي كانت تضم طيفاً يتخطى الساحة السنية، عادت مرغمة إلى بيتها الطائفي، وباتت حصراً تمثل فئة من هذه الطائفة، يضاف إلى ذلك انفراط عقد قوى "14 آذار" وما كانت تؤمنه للحريري من بعد وطني.
وإن كان تصدع بيت المستقبل الداخلي وتراجعه سنياً ووطنياً، أديا إلى ضعف ملحوظ، إلا أن الأزمة الأخيرة مع السعودية، وما تخللها، كادت أن تطيح بالتيار الذي امتد يوماً من قرى عكار شمالاً إلى قرى العرقوب جنوباً.
كل هذه العوامل يضاف إليها العجز المالي الذي يتخبّط به، أظهرت أن الحريري بات عاجزاً عن المواجهة. حتى الحكومة التي يشكّلها إن نجحت لن تكون حكومة حريرية، بل حكومة يغلب عليها قرار "8 آذار"، والحريري ليس إلا واجهة لها أو رئيساً لا يمكنه أن يحكم.
تقول مصادر "العربي الجديد" إن "هذا الواقع تدركه قوى 8 آذار، وخصوصاً حزب الله الذي يريد الحريري رئيساً ضعيفاً لحكومة يقرر هو توجهاتها السياسية، وتشكل غطاءً له لما يمثل الحريري من ثقل عربي ودولي، خصوصاً أن أي حكومة أخرى برئاسة أحد الشخصيات السنية المحسوبة على حزب الله ستدخله في أزمة مع المجتمع الدولي، الذي سيعتبرها حكومة حزب الله، وقد تدخل البلاد في نفق العقوبات الأميركية، بالتزامن مع استمرار الحديث الإسرائيلي عن عدم التفرقة بين لبنان والحزب، بما أنه خاضع لنفوذه".
وكما يدرك "حزب الله" هذه الحقائق، يدرك "التيار الوطني الحر" أيضاً، أن هدف نجاح العهد، يمكن أن يتحقق أكثر عبر حكومة يرأسها الحريري، لما يمثله، ولعل هذه الحاجة من عون ومن "حزب الله" للحريري هي النقطة الوحيدة التي يستند إليها الحريري في ضعفه.
لكن على الرغم من حاجة "8 آذار" إلى الحريري، إلا أن تأليف حكومة يكون عنوانها عودة العلاقات اللبنانية ــ السورية، والتماهي مع المحور الإيراني – الروسي، يعتبره الرجل انتحاراً إقليمياً، وخصوصاً في شق العلاقة مع السعودية، وداخلياً وتحديداً في الطائفة السنية، التي لن تستسيغ حكومة بهذه العناوين.
اذاً، القرار لدى الحريري محسوم. "لا حكومة يكون عنوانها انضمام لبنان رسمياً للمحور الروسي – الإيراني" تقول المصادر، وبانتظار محاولات إقناع الحريري، يدور في الأروقة السياسية همس عن الخيارات الأخرى المتاحة في مرحلة ما بعد الحريري.
وتبرز في هذا السياق عدة احتمالات، لم يتبين بعد مدى جديتها، خصوصاً أن أغلبها يدخل البلاد في أزمات إما داخلية وإما خارجية. أول هذه الخيارات حكومة وحدة وطنية تضم الجميع وحتى تيار "المستقبل" و"القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" عبر وجه مقرّب من تيار "المستقبل" أو يرضى عنه الحريري مثلما حصل مع حكومة تمام سلام بين عامي 2014 و2016. وثانيها في حال رفض الحريري تسمية مقرب منه، يمكن تشكيل حكومة عبر أحد الوجوه السنية المقبولة عربياً ودولياً، يبقى خيار "الثلاثي" الرافض لعودة العلاقات بين لبنان وسورية (الحريري وحزب وليد جنبلاط والقوات اللبنانية) إلى طبيعتها، الانضمام لها أو عدمه بيده، والخيار الثالث حكومة بوجوه تكنوقراط مقربة من قوى "8 آذار" مثلما حصل مع تعيين نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة بعدما "أُرغم" الحريري على الاستقالة من الحكومة في 2011.
وبين هذه الخيارات يستبعد أكثر من مصدر إمكانية تأليف حكومة يغلب على طابعها قوى "8 آذار" لأنها ستؤدي حكماً إلى استفزاز المجتمع الدولي والعربي، الذي سيعتبرها حكومة "حزب الله"، وبالتالي يبقى خيار الحريري هو الأول، وإن طال أمد التأليف ريثما يتضح المشهد الإقليمي والدولي، وإلا فحكومة بعنوان "تكنوقراط" وبوجوه غير مستفزة للمجتمع العربي والدولي، على الرغم من صعوبة البحث عن أسماء تصلح لهذه المهمة خصوصاً لرئاستها.