تطايرت فساتين بيروت المشغولة بنول صعب، فتسلل اللون الأحمر خلسة إلى أقمشة المصمم اللبناني العالمي إيلي صعب الذي وجد عمرانه الناعم تهشم أرضاً بفعل انفجار مرفأ المدينة في 4 أغسطس/ آب الحالي.
وأتى عصف الانفجار الذي دمر مرفأ بيروت على إمبراطورية صنعها رجل كان ينام على حرير ويصحو على حياكة أحلام سيدات المجتمع. وعلى الرغم من أن العصف استمر لثوانٍ معدودات فقد بدا هذا الوقت بالنسبة إلى إيلي صعب وكأنه دهر، إذ سار للتأكد من أن موظفيه البالغ عددهم 200 فرد، بمن فيهم نجله، كانوا آمنين.
يجلس إيلي صعب إلى جانب نجله إيلي جونيور، مستذكراً اليوم المشؤوم عندما رآه مضرجاً بدمائه، ويقول "عندما رأيته مغطى بالدماء قلت مش معقول، ما صدقت، قلت مصاب لكن لا بأس الحمد الله إنه استطاع أن ينجو. كانت ربع ساعة يمكن طولها شي يومين. ليست قضية أب وابنه وابن وأبيه. القضية إننا نحن نشتغل كلنا كأننا عائلة تحت سقف واحد. نحن نهتم لكل الأشخاص".
ويلخص صعب تلك اللحظات بالقول "كان كأنه منام بشع".
وتسبب انفجار كميات كبيرة من نترات الأمونيوم كانت مخزنة لسنوات في مستودع داخل المرفأ، من دون إجراءات سلامة، في تصاعد سحابة على شكل الفطر يوم الرابع من أغسطس/ آب، ومقتل 178 شخصاً وإصابة ستة آلاف وتدمير مناطق بأكملها في بيروت. دمر الانفجار محلات لمصممين آخرين لديهم دور أزياء في وسط بيروت، منهم زهير مراد وربيع كيروز وعبد محفوظ وغيرهم، وأصيب بعضهم أيضاً بجروح.
وبتنهيدة طويلة يردد صعب مع نجله إيلي جونيور تعبيراً مشتركاً مشتقاً من اسم العائلة، فيقول الرجلان "كان شي كتير صعب".
اختبر مصمم الأزياء اللبناني كل سنوات الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان بين 1975 و1990 بتفاصيلها وعذاباتها، لكونه عاش في منطقة عين الرمانة عند خطوط التماس في بيروت. لكن هذه المرة كانت التجربة مختلفة بالنسبة إليه. وأعاد انفجار الرابع من أغسطس/ آب إحياء ذكرى الحرب الأهلية عند إيلي صعب، إذ يقول "أكيد رجعنا لذات التفاصيل، لذات الريحة، للغبرة للزجاج. لم نكن نحب نعيش هذا الشي، ما إلها لزوم وكان فينا ما نعيشها".
ومثل العديد من اللبنانيين شعر الرجل البالغ من العمر 56 عاماً بأن الانفجار كان على عتبة بابه. يروي صعب اللحظات الأولى لعصف الانفجار، ويصفها قائلاً "الطريقة والدفشة (الدفع) التي أتتنا، لم يبق أحد في مكانه. كلنا زحنا. كنا واقفين نشتغل، كل واحد تم دفعه مترين أو ثلاثة جراء الضغط. كانت طعمة (نكهة) من الحرب جديدة علينا".
لم يكن إيلي صعب وفريقه العامل ينتظرون أزمة مدمرة من هذا النوع، لا سيما أن اللبنانيين كانوا في أمس الحاجة إلى نهوض اقتصادي معيشي في ظل أسوأ أزمة اقتصادية تمر بها البلاد. ويقول المصمم العالمي "اللبنانيون لديهم مشاكل كثيرة أكبر من ذلك. ولكن هذا الشيء الذي صار لا يمكن وصفه. كان كتير بشع".
ويستعرض نجل إيلي صعب المشاهد بدقة "كانت البيوت مكسرة على الطريق، وناس قاعدة على الطرقات وعجقة سير (زحمة)، ولا نعرف إذا كان سيحصل شيء ثاني، وعم نطمئن على كل واحد، ونسمع إن ناس جرحت أصيبت ماتت اختفت. جدياً هذا النهار كان وكأنه ستة أو سبعة أيام. حتى من بعد هذا النهار لا نعرف كيف يمر الوقت. صرنا أسبوعين تقريباً نشعر كأننا امبارح من جهة، ومن جهة أخرى وكأننا إلنا 3 أشهر. لا نعرف أن نقيس الوقت جيداً".
ورغم مأساوية المشاهد، يجلس إيلي صعب مراقباً مملكته التي كانت من قماش فاخر وانهارت أمام ناظريه، لكنه يعلن اليوم تصميم ثوب الأمل وإزالة رائحة الدمار والغبار، ولا يدع الزجاج المتكسر يحتل الأمكنة المدمرة.
ولا يعتزم صعب مبارحة بيروت والهجرة، إذ يقول "أنا صورة لكثير من الشباب اللبناني، لا أريد المكابرة على نفسي أو التعالي على البوكس (اللكمة) الذي أكلناه. يجب أن أكون مثل بيروت كل مرة تنفض نفسها وتطلع من تحت الدمار وترجع أحلى من ما كانت".
ودار أزياء صعب الواقعة في وسط بيروت لم تكن الخسارة الوحيدة له، إذ أتى الانفجار الصاعق على منزله التراثي في منطقة الجميزة الأكثر تضرراً، إذ يمتلك صعب بيتاً تقليدياً لبنانياً في منطقة الجميزة تعلوه الأعمدة التراثية وقبة القناطر والسقوف العالية والرخام وبلاط الأرابيسك، وتضيئه ثريات نادرة باهظة الثمن اقتناها من إسطنبول.
وبدأت أعمال الإصلاح في دار الأزياء الضخمة التي يمتلكها في وسط بيروت لإعادة العمل كما كان قبل الانفجار. وفي الوقت نفسه يعتزم العمل على إعادة منزله كما كان. ووثقت كاميرا "تلفزيون رويترز" مشاهد الدمار والخراب في منزله حيث دمرت قوة الانفجار كل مقتنياته، فتكسرت القناطر والثريات، وأزيلت الواجهات، واتكأت الشرفات على بعضها البعض، وامتزج الرخام بالركام.
وفي ثنايا مشهد الخراب تنزوي شماعات ثياب مخملية كأنها تبحث عن فساتينها بين الأنقاض. وفي زاوية أخرى تظهر أسطوانة موسيقية قديمة للفنانة فيروز تحمل عنوان "لبنان الحقيقي جايي"، وقد انشطرت قسمين، وطاول الدمار أسماء أغنياتها، لكن صعب يقرر العودة إلى صلب الأغنية ليعيد بناء ما هدمه الانفجار.
(رويترز)