عبر جديده "ريتشارد جويل"، يضع كلينت إيستوود لبنة جديدة في صرح منجز عظيم، كمّاً ونوعاً، قوامه 38 فيلماً طويلاً اختبر فيها أنواعاً سينمائية مختلفة: الدراما، أفلام الحرب، المغامرة، السِيَر الموسيقية، الفضاء، "فيلم الطريق"، أفلام سوداوية، إلخ. لا شيء يقف في طريق هذا المخضرم، المطلّ على عقده العاشر (89 عاماً)، بخوضه تحدّيات جديدة، يتّضح أنّ جوهرها، في الفترة الراهنة من مساره، كامنٌ في قصص مستوحاة من أحداث حقيقية، تطرح الرابط المعقّد بين الماضي والحاضر، وتنبش في التاريخ المعاصر للولايات المتّحدة الأميركية، عبر مقاربة إنسانية في عمقها، تعيد فتح ملفات قاتمة طواها بتسرّع زمن الاهتمام الإعلامي الموبوء بقصر الذاكرة، من دون استخلاص عِبَرها المهمّة لفهم حاضر الأمّة الأميركية، وخصوصاً كيفية تعاملها مع "أبطالها".
هذه حال 4 أفلام أنجزها إيستوود في العقد الأخير: "قنّاص أميركي" (2014)، و"سولي" (2016)، و"قطار الساعة 15:17 إلى باريس" (2018)، و"ريتشارد جويل" (2019)، الذي يستعيد قصة أثارت اهتماماً قبل أكثر من 20 عاماً، خلال الأولمبياد الصيفي (حدث يحظى بأوسع تغطية إعلامية على الإطلاق)، بتحوّل رجل مُكلّف بالأمن إلى بطل بين ليلة وضحاها، لمساهمته في تقليص عدد ضحايا تفجير إرهابي، بفضل اكتشافه قنبلة موضوعة وسط حفل موسيقي خاص بـ"احتفالات أتلانتا 1996"، قبل أن يغدو شيئاً فشيئاً المتّهم الأساسي في القضية.
ريتشارد جويل (أداء باهر للممثل شبه المغمور بول والتر هاوسر)، عازب ثلاثيني، طيّب القلب ونقيّ السريرة. يعاني من السمنة، ويعيش مع والدته (كاتي بايتس). يجد نفسه فجأة في دوّامة الصعود المفاجئ إلى الشهرة، المتبوع بسقوطٍ مدوٍ في هاوية كراهية بلد بأكمله.
لوهلة أولى، يبدو الأمر شبيهاً بطرح "سولي"، أي تشيسلي سولينبرغر، ربّان الطائرة الذي ألفى نفسه في قفص الاتهام بالتهوّر، بعد نجاحه في الهبوط بطائرة معطّلة وسط نهر، من دون وقوع ضحايا. لكنّ الاختلاف الجوهري بين الفيلمين يكمن في تفاصيل وضعية البطلين المضادين في مواجهة المنظومة ورهانات الصراع، خصوصاً في التباين الجذري بين تركيبتي شخصيّتيهما ودوافعهما، والاستراتيجية المتبنّاة لردّ اعتبارهما.
كعادته، يبرع إيستوود في التوطئة لفيلمه بأفضل طريقة، بتقديمه لمحة عن الحياة اليومية لريتشارد جويل، وتدرّجه في مهنتي الحراسة والأمن، من دون إغفال التركيز على تفانيه في العمل، وطموحه إلى الترقّي، الذي يؤدّي إلى طرده من عمله كلّ مرة، أو إلى تقهقره في سلّم مهن الأمن. لاحقاً، يُغذّي الشكوك حول تورّطه في جريمة التفجير.
هذه ثيمة عزيزة على قلب المعلّم، تمزج بين التفاؤل والمرارة في آن: كيف تحتمل سِيَر البطولة دائماً وجهين متباينين لحقيقة واحدة، تُجسّد كنه الإنسان، إذْ يساهم سعي البشر إلى إظهار جانبهم الإنساني المشرق في الكشف عن وجه آخر مُغرق في القبح. مثلٌ أول: يفضي الحادث المفجع، الذي تلى الإنجازات البطولية للمُلاكمة ماغي (هيلاري سوانك)، إلى تعرية أفراد عائلتها وفضح نفاقهم وتنكّرهم لها ("فتاة بمليون دولار"، 2004). مثلٌ ثانٍ: يتسبّب سعي ديف بويل (تيم روبنز)، إلى الاقتصاص من مغتصِبٍ في تغذية سوء تفاهم مأساوي، يذهب هو نفسه ضحيته ("ميستيك ريفر"، 2003).
الذنب الوحيد لريتشارد جويل إيمانه بقيمة عمله، حين أصرّ على اتّباع الإجراءات المنصوص عليها في البروتوكول الأمني، قبل فحص حقيبة ظهر مشكوك بأمرها. معظم زملائه سيغضّون الطرف عنها، أو يسارعون إلى فتحها تغليباً منهم لظنّ أنها ليست سوى متاع منسي يحوي زجاجات جعة. هنا أيضاً لازمة أخرى مُفضّلة عند مخرج "البغل" (2018)، تتعلّق بالجدلية بين حسّ المسؤولية والخيارات الأخلاقية، وكيف يغدو، في الوضعيات القصوى، الالتزام بالأولى وابلاً على الثانية، والعكس صحيح. ينجح سيناريو بيلي راي ("كابتن فيليبس" لبول غرينغراس، 2013) ـ المعتمِد على مقالة "الكابوس الأميركي: جولة ريتشارد جويل" لماري براينر، وكتاب "المتّهم: تفجير أولمبي" لكيت ألكسندر وكيفن سالوين ـ في استثمار التوتّر الناجم عن هذه المفارقة، عبر الرهان على عدم تخلّي ريتشارد جويل عن الاحترام والتقدير اللذين يُكنّهما للمؤسّسة الأمنية، رغم المضايقات العديدة والتعامل غير الإنساني الذي يلقاه من ضبّاط "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، الذين يُفترض بهم أنْ يكونوا قدوة في عينيه، وأسمى طموحاته المهنية.
اقــرأ أيضاً
رغم عيب الفيلم، المتمثّل بشيء من الاعتيادية في تطوّر الأحداث وتسلسلها، فإن تماسك الخيوط الثانوية للحكي ومتانة ارتباطها مع الحبكة الأساسية تبقى أهم نقاط قوّة سينما كلينت إيستوود. فإلى جاذبية خطّ رهان المحامي على قضية جويل لانتشال مكتبه من العطالة، والوصل مع شخصيته المتوهّجة والشرسة المكتَشفة في البداية، هناك الدور المهمّ للصحافية كيتي سكراغز (أوليفيا وايلد)، في تفجير القضية إعلامياً، وتوجيه الرأي العام إلى مغامرة صحيفة "أتلانتا جورنال"، بنشر مقالها المبني على معلومات مستقاة من مصدر مجهول حول شكوك "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، واستعداده لتوجيه الاتّهام إلى جويل بضلوعه في التفجير. هكذا يظهر نموذجٌ آخر مميّز لطرح الممثّل الأبرز للمدرسة النيوكلاسيكية الأميركية، وأحد أسباب تبنّيه لسينما جون فورد: الفرد في مواجهة الجماعة.
هذه حرب غير متكافئة، يخوضها ريتشارد وأمّه ومحاميه ضدّ مؤسّستين عملاقتين: "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، الباحث عن أي شيء يُنقذه من الانتقادات إذا أخفق في الكشف عن الجناة، وإنْ اقتضى الأمر اتّهام رجل هو أول المقتنعين ببراءته، وآلة الإعلام، الساعية إلى الإثارة بأيّ ثمن، ومن دون جهد يذكر في تحرّي الحقيقة. تلميح الفيلم إلى أن سكراغرز حصلت على السبق الصحافي مقابل علاقة جنسية مع ضابط تحقيق أثار لغطاً كبيراً في الولايات المتّحدة، واتّهام كلينت إيستوود مجدّداً باحتقار النساء.
رغم اصطفافه الواضح إلى جانب المتّهم، يتمسّك الفيلم بالشكّ الذي يدفع مُشاهداً غير مُطّلع على مآل القضية إلى عدم الاقتناع المطلق ببراءة جويل، عبر تفاصيل تلعب على الخطّ الرفيع الفاصل بين التصرّفات الناجمة عن هوس ريتشارد جويل بمهنته، والحماقات التي ربما يرتكبها أيّ مُضطربٍ نفسيّاً، يريد النجاح بأي ثمن، كالبحث عن وصفات صنع المتفجرات على "الإنترنت"، والاحتفاظ بشظايا تفجير من مكان الجريمة كتذكار.
تلتقي الخيوط الثانوية للسرد بالحبكة الأساسية في مشهدين مفتاحيّين: مواجهة واتسُن لسكراغرز بحقائقها الأربع في قاعة تحرير صحيفتها، والخروج المفاجئ لريتشارد من قوقعته أثناء جلسة توجيه الاتّهامات بحضور واتسُن، ملقّناً ضباط مكتب التحقيقات درساً لن ينسوه في أخلاقيات المهنة، خاتماً كلامه بالقول إنّ "كلّ ما ستنجحون فيه بالاستمرار في اضطهادي هو إقناع المزيد من حراس الأمن بتجنّب القيام بمهمّاتهم على أكمل وجه، لأنّهم سيحجمون عن ذلك خوفاً من أن يتحوّلوا إلى ريتشارد جويل جديد".
ريتشارد جويل (أداء باهر للممثل شبه المغمور بول والتر هاوسر)، عازب ثلاثيني، طيّب القلب ونقيّ السريرة. يعاني من السمنة، ويعيش مع والدته (كاتي بايتس). يجد نفسه فجأة في دوّامة الصعود المفاجئ إلى الشهرة، المتبوع بسقوطٍ مدوٍ في هاوية كراهية بلد بأكمله.
لوهلة أولى، يبدو الأمر شبيهاً بطرح "سولي"، أي تشيسلي سولينبرغر، ربّان الطائرة الذي ألفى نفسه في قفص الاتهام بالتهوّر، بعد نجاحه في الهبوط بطائرة معطّلة وسط نهر، من دون وقوع ضحايا. لكنّ الاختلاف الجوهري بين الفيلمين يكمن في تفاصيل وضعية البطلين المضادين في مواجهة المنظومة ورهانات الصراع، خصوصاً في التباين الجذري بين تركيبتي شخصيّتيهما ودوافعهما، والاستراتيجية المتبنّاة لردّ اعتبارهما.
كعادته، يبرع إيستوود في التوطئة لفيلمه بأفضل طريقة، بتقديمه لمحة عن الحياة اليومية لريتشارد جويل، وتدرّجه في مهنتي الحراسة والأمن، من دون إغفال التركيز على تفانيه في العمل، وطموحه إلى الترقّي، الذي يؤدّي إلى طرده من عمله كلّ مرة، أو إلى تقهقره في سلّم مهن الأمن. لاحقاً، يُغذّي الشكوك حول تورّطه في جريمة التفجير.
الذنب الوحيد لريتشارد جويل إيمانه بقيمة عمله، حين أصرّ على اتّباع الإجراءات المنصوص عليها في البروتوكول الأمني، قبل فحص حقيبة ظهر مشكوك بأمرها. معظم زملائه سيغضّون الطرف عنها، أو يسارعون إلى فتحها تغليباً منهم لظنّ أنها ليست سوى متاع منسي يحوي زجاجات جعة. هنا أيضاً لازمة أخرى مُفضّلة عند مخرج "البغل" (2018)، تتعلّق بالجدلية بين حسّ المسؤولية والخيارات الأخلاقية، وكيف يغدو، في الوضعيات القصوى، الالتزام بالأولى وابلاً على الثانية، والعكس صحيح. ينجح سيناريو بيلي راي ("كابتن فيليبس" لبول غرينغراس، 2013) ـ المعتمِد على مقالة "الكابوس الأميركي: جولة ريتشارد جويل" لماري براينر، وكتاب "المتّهم: تفجير أولمبي" لكيت ألكسندر وكيفن سالوين ـ في استثمار التوتّر الناجم عن هذه المفارقة، عبر الرهان على عدم تخلّي ريتشارد جويل عن الاحترام والتقدير اللذين يُكنّهما للمؤسّسة الأمنية، رغم المضايقات العديدة والتعامل غير الإنساني الذي يلقاه من ضبّاط "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، الذين يُفترض بهم أنْ يكونوا قدوة في عينيه، وأسمى طموحاته المهنية.
تتخلّل الفيلم مَشاهد مؤثرة عن الجدل بين ريتشارد ومحاميه ـ صديقه القديم واتسُن براينت (سام روكويل)، حول الطيبة المفرطة لرجل الأمن السابق، وسذاجته التي تجعله ينظر إلى المحقّقين كزملاء مهنة، بينما يبحثون عن أقرب حيلة لإرساله إلى المشنقة. وهذا من دون تخلّي المخرج عن سخريةٍ تطبع أفلامه عادة، حين يخفق جويل مثلاً في تنفيذ وعد قطعه مع واتسُن يقضي بالتزامه الصمت أثناء تفتيش المنزل.
رغم عيب الفيلم، المتمثّل بشيء من الاعتيادية في تطوّر الأحداث وتسلسلها، فإن تماسك الخيوط الثانوية للحكي ومتانة ارتباطها مع الحبكة الأساسية تبقى أهم نقاط قوّة سينما كلينت إيستوود. فإلى جاذبية خطّ رهان المحامي على قضية جويل لانتشال مكتبه من العطالة، والوصل مع شخصيته المتوهّجة والشرسة المكتَشفة في البداية، هناك الدور المهمّ للصحافية كيتي سكراغز (أوليفيا وايلد)، في تفجير القضية إعلامياً، وتوجيه الرأي العام إلى مغامرة صحيفة "أتلانتا جورنال"، بنشر مقالها المبني على معلومات مستقاة من مصدر مجهول حول شكوك "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، واستعداده لتوجيه الاتّهام إلى جويل بضلوعه في التفجير. هكذا يظهر نموذجٌ آخر مميّز لطرح الممثّل الأبرز للمدرسة النيوكلاسيكية الأميركية، وأحد أسباب تبنّيه لسينما جون فورد: الفرد في مواجهة الجماعة.
هذه حرب غير متكافئة، يخوضها ريتشارد وأمّه ومحاميه ضدّ مؤسّستين عملاقتين: "المكتب الفيدرالي للتحقيقات"، الباحث عن أي شيء يُنقذه من الانتقادات إذا أخفق في الكشف عن الجناة، وإنْ اقتضى الأمر اتّهام رجل هو أول المقتنعين ببراءته، وآلة الإعلام، الساعية إلى الإثارة بأيّ ثمن، ومن دون جهد يذكر في تحرّي الحقيقة. تلميح الفيلم إلى أن سكراغرز حصلت على السبق الصحافي مقابل علاقة جنسية مع ضابط تحقيق أثار لغطاً كبيراً في الولايات المتّحدة، واتّهام كلينت إيستوود مجدّداً باحتقار النساء.
رغم اصطفافه الواضح إلى جانب المتّهم، يتمسّك الفيلم بالشكّ الذي يدفع مُشاهداً غير مُطّلع على مآل القضية إلى عدم الاقتناع المطلق ببراءة جويل، عبر تفاصيل تلعب على الخطّ الرفيع الفاصل بين التصرّفات الناجمة عن هوس ريتشارد جويل بمهنته، والحماقات التي ربما يرتكبها أيّ مُضطربٍ نفسيّاً، يريد النجاح بأي ثمن، كالبحث عن وصفات صنع المتفجرات على "الإنترنت"، والاحتفاظ بشظايا تفجير من مكان الجريمة كتذكار.
تلتقي الخيوط الثانوية للسرد بالحبكة الأساسية في مشهدين مفتاحيّين: مواجهة واتسُن لسكراغرز بحقائقها الأربع في قاعة تحرير صحيفتها، والخروج المفاجئ لريتشارد من قوقعته أثناء جلسة توجيه الاتّهامات بحضور واتسُن، ملقّناً ضباط مكتب التحقيقات درساً لن ينسوه في أخلاقيات المهنة، خاتماً كلامه بالقول إنّ "كلّ ما ستنجحون فيه بالاستمرار في اضطهادي هو إقناع المزيد من حراس الأمن بتجنّب القيام بمهمّاتهم على أكمل وجه، لأنّهم سيحجمون عن ذلك خوفاً من أن يتحوّلوا إلى ريتشارد جويل جديد".