تواجه إيران، التي تئن تحت وطأة العقوبات الأميركية وانهيار مبيعاتها من النفط وتداعيات وباء "كوفيد-19" الشديدة، صعوبات كبيرة في شراء المواد الغذائية والدواء لتجنب حدوث أزمة في المعروض. لكن تلك مهمة شاقة للغاية.
ورغم أنّ هذه الإمدادات معفية من العقوبات، فقد قالت خمسة مصادر في مجال التجارة والتمويل، إنّ البنوك والحكومات تمتنع عن تحويل الأموال الإيرانية أو قبولها خوفاً من أن تخرق دون قصد القيود الأميركية المعقدة.
وقد بدأ، في فبراير/ شباط، العمل بالاتفاق السويسري للتجارة الإنسانية، وهو آلية تجارية معتمدة أطلقتها الحكومة السويسرية وأيدتها واشنطن، وذلك بعد عمل استمر أكثر من عام لتيسير المشتريات الإيرانية من الغذاء والدواء من الشركات السويسرية.
ومع ذلك قالت المصادر الخمسة المطلعة على التطورات، لـ"رويترز"، إنّ البنك المركزي الإيراني يعجز عن تحويل مليارات الدولارات من حصيلة تصدير النفط التي تراكمت بين 2016 و2018 إلى حسابات مصرفية تعمل من خلال الآلية.
وقد تراكمت تلك الأموال في حسابات مصرفية في بلدان باعت إيران النفط لها، لا سيما في آسيا، ومنها كوريا الجنوبية واليابان، وذلك خلال السنوات التي أعقبت توقيع إيران اتفاقها النووي مع القوى العالمية، وقبل أن تنسحب إدارة الرئيس الأميركي دونال ترامب من الاتفاق، وتعيد فرض العقوبات على إيران في 2018.
وتجمدت تلك الأموال عند فرض العقوبات من جديد، مستهدفة البنك المركزي الإيراني والتعاملات الدولارية مع الكيانات الإيرانية. ونتيجة لذلك تخشى البنوك الدولية وحكوماتها التي تحصل منها الحكومات على موافقات على السماح بالإفراج عن هذه الأموال دون تفويض خاص من واشنطن لكل حالة على حدة.
وتقول المصادر إنّ هذا التجميد يبرز مدى الخوف الذي أصاب الكثير من البنوك والشركات والدول من إبرام أي تعاملات مع إيران، بسبب تعقيد العقوبات الأميركية، حتى في حالة وجود الإعفاءات وذلك لأن انتهاك العقوبات قد يؤدي إلى غرامات مالية ضخمة والاستبعاد الفعلي من النظام المالي الأميركي بما له من أهميته بالغة.
وكانت التداعيات محسوسة أيضاً في مجالات أخرى، إذ سبق أن نشرت "رويترز" تقارير عن شركات أجنبية كثيرة في مجالي الشحن والتأمين، غير مستعدة لتوفير السفن أو التغطية التأمينية للرحلات التجارية، حتى ما يتم منها الموافقة عليه.
امتنعت السلطات الكورية الجنوبية واليابانية عن قبول قيام البنك المركزي الإيراني بتحويل الأموال إلى سويسرا، دون موافقة صريحة من الجانب الأميركي، وفقاً لما قالته المصادر التي طلبت عدم نشر أسمائها لحساسية المسألة. وأكدت وزارة الخارجية الكورية الجنوبية ذلك.
وقال مسؤول، لـ"رويترز"، "في ظل العقوبات الأميركية الحالية من المستحيل إعادة الأموال نقدا. وأي إذن فيما يتعلق بالأموال يحتاج لصدور تفويض من الولايات المتحدة بالتحديد".
وقال المسؤول بوزارة الخارجية إنّ سيول "ناقشت المسار السويسري كوسيلة أخرى محتملة لتحويل (الأموال)"، لكنه أضاف أنّ "الولايات المتحدة لم تبدِ موقفاً إيجابياً تجاه هذه المقترحات". ويكتنف الغموض السبب الذي يدفع الولايات المتحدة لعدم إصدار موافقة محددة على تلك الصفقات.
في ظل العقوبات الأميركية الحالية من المستحيل إعادة الأموال نقداً. وأي إذن فيما يتعلق بالأموال يحتاج لصدور تفويض من الولايات المتحدة بالتحديد
ورداً على سؤال عما إذا كان مسموحا بإجراء مثل تلك الصفقات، وما إذا كانت وزارة الخزانة الأميركية مستعدة لإصدار تفويض محدد بها، قال متحدث باسم الوزارة، إنّ الولايات المتحدة ملتزمة بتوصيل السلع والخدمات الإنسانية للشعب الإيراني.
وأضاف المتحدث أنه يجوز لغير الأميركيين المشاركة في تصدير أو إعادة تصدير الغذاء والمنتجات الزراعية والأدوية والأجهزة الطبية إلى إيران، خارج الولاية القضائية الأميركية، دون الحصول على تفويض إضافي، وذلك بشرط أن تتفق كل المعاملات التي يكون البنك المركزي الإيراني طرفاً فيها مع التعليمات الأميركية.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية، إنّ الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بإنجاح الاتفاق السويسري. وأضاف "لم يكن من قبل قط من أهداف السياسة الأميركية استهداف التجارة الإنسانية مع إيران، ولا هو الأمر كذلك الآن".
قالت الحكومة السويسرية، يوم الاثنين، إنّ شركة أدوية سويسرية استكملت أول صفقة بموجب قناة التجارة الإنسانية الجديدة مع إيران، وإنّ صفقات أخرى ستتبعها.
وقالت أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية، لـ"رويترز"، إنّ الآلية السويسرية تحتاج "تحويلات منتظمة من الأموال الإيرانية من الخارج لكي تؤدي وظيفتها"، مضيفة أنّ السلطات الأميركية أكدت أنها ستدعم مثل تلك التحويلات.
وأضافت الأمانة، دون الخوض في تفاصيل أخرى، "نحن نجري محادثات مع الولايات المتحدة وشركاء آخرين حول هذه المسألة. لكن لا يمكننا تقديم معلومات عن تحويلات بعينها". ولم تعلق الأمانة أيضاً على كيفية تمويل الصفقة الأولى المؤكدة.
بنك بي.سي.بي السويسري هو المؤسسة المالية الوحيدة التي التزمت بالآلية السويسرية حتى الآن ووافقت على استقبال المال الإيراني بموجب الخطة
وقال مسؤول إيراني طلب الحفاظ على سرية هويته، إنّ طهران على اتصال بالدول التي توجد لها فيها أموال لمحاولة تحويلها بمقتضى المبادرة السويسرية. وقال المسؤول "اتصلت تلك الدول بالولايات المتحدة لضمان موافقتها على أي تحويل من هذا النوع لكن دون جدوى".
وأوضحت المصادر أنّ بنك "بي.سي.بي" السويسري هو المؤسسة المالية الوحيدة التي التزمت بالآلية السويسرية حتى الآن، ووافقت على استقبال المال الإيراني بموجب الخطة.
وقالت المصادر إنّ البيوت التجارية الدولية الكبرى مستعدة أيضاً لتزويد إيران بالسلع الزراعية بموجب الخطة، على أن يتم ذلك من خلال صفقات معينة تخلو من أي مخاطر تمثلها العقوبات.
وقال تاجر حبوب أوروبي "البيوت التجارية الكبرى لن تعمل إلا في إطار نظام دفع رسمي معتمد من أميركا". مما يزيد من مشاكل الإمدادات الغذائية في إيران تراجع واردات الذرة من البرازيل.
فقد كانت إيران ثاني أكبر سوق للذرة البرازيلية في العام 2019، غير أنّ البيانات الحكومية البرازيلية تبين أن وارداتها من البرازيل، في الفترة من يناير/ كانون الثاني إلى يونيو/ حزيران، انخفضت إلى حوالي 339 ألف طن، من 2.3 ملايين طن قبل ذلك بعام.
وتواجه طهران منافسة متزايدة في سوق الذرة البرازيلية، من مشترين آخرين لا سيما تايوان. كذلك يكافح البائعون البرازيليون لإيجاد بنوك دولية تقبل تنفيذ الصفقات بسبب مخاطر العقوبات التي تكتنفها، وذلك وفقاً لما قالته سبعة مصادر تجارية ومالية.
وقالت المصادر إنّ التجار سعوا إلى الاستعانة ببنوك محلية صغيرة في إتمام الصفقات المرتبطة بإيران. وأضافت المصادر أنهم سعوا أيضاً لاستخدام اليورو لتجنب التعاملات الدولارية التي سيتم الكشف عنها لوزارة الخزانة الأميركية.
وقالت المصادر التجارية البرازيلية إنّ إيران تدفع عشرة دولارات للطن زيادة عن أي مشترين آخرين للتعويض عن تحديات السداد والصعوبات اللوجستية.
تواجه طهران منافسة متزايدة في سوق الذرة البرازيلية من مشترين آخرين لا سيما تايوان. كذلك يكافح البائعون البرازيليون لإيجاد بنوك دولية تقبل تنفيذ الصفقات بسبب مخاطر العقوبات التي تكتنفها وذلك وفقا لما قالته سبعة مصادر تجارية ومالية
وقال مهدي أنصاري رئيس "مجموعة أنصاري" التجارية، لتجارة الحبوب في إيران "بسبب السياسات العدائية من الولايات المتحدة علينا خفض الواردات".
وقالت مصادر تجارية إنّ مشترين إيرانيين أبرموا، هذا الشهر، صفقات لشراء حوالي 600 ألف طن من الذرة من البرازيل للنصف الثاني من العام، ومن المتوقع إتمام إجراءات السداد بمجرد أن تبحر السفن بالشحنات. غير أن بإمكان البائعين تحويل السفن إلى مشترين آخرين إذا عجزت إيران عن السداد.
كما شرحت المصادر إن التجار البرازيليين يستخدمون صفقات مقايضة؛ مثل نقل اليوريا الإيرانية لاستخدامها كمخصب زراعي مقابل الذرة.
وقال كارلوس ميلنيتز الرئيس التنفيذي لشركة "إيليفا كيميكا" البرازيلية للكيميائيات، لـ"رويترز"، إنّ مثل هذه الصفقات لا تمثل خرقاً للعقوبات، وذلك لعدم تداول أي أموال، لكنه أضاف أنها تجعل الذرة أكثر كلفة لإيران.
غير أنه أكد أنّ شركته تتجنب السفن التي ترفع العلم الإيراني في صفقات المقايضة بعد أن ظلت سفينتان عالقتين لأسابيع في ميناء برازيلي في العام الماضي عندما رفضت شركة "بتروبراس" التي تديرها الدولة إعادة تزويدها بالوقود بسبب العقوبات الأميركية.
(رويترز)